للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصوفية، ومعنى ذلك أن الشام كانت تستقبل كثيرين منهم. وكان يحدث كثيرا أن يتخذوها دار مقام كما صنع الدارانى الواسطى وأحمد بن عطاء الروذبارى، وغيرهما كثيرون مثل الختلى نزيل الشام المتوفى سنة ٤٥٣ وهو أستاذ الهجويرى الغزنوى الأفغانى، وكانت أكثر إقامته بالديار الشامية. ومعنى ذلك أن الشام كانت دائما ساحة كبرى للنسك والتقوى والعبادة.

وما نصل إلى سنة ٤٨٨ حتى ينزل الإمام الغزالى الطوسى الصوامع النائية فى مساجد بيت المقدس، وكانت قد انتابته أزمة روحية من الخلافات العنيفة بين الفرق والملل وحتى بين الفقهاء فى فروع الشريعة. وقد أوضحنا ذلك فى حديثنا عن الزهد والتصوف بإيران فى الجزء الخامس من تاريخ الأدب العربى وكيف أخذ يحمل على الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، وحمل على فرقة الإسماعيلية الشيعية حملة عنيفة فى كتابه «فضائح الباطنية». وكان قد رأى فى موطنه ضعف الوازع الدينى عند طوائف الصوفية، وأن جماعات منهم كانت تسقط عن نفسها الفرائض الدينية، بينما كان منهم من يؤمن بالحلول والاتحاد بالله والفناء فيه. وكل ذلك أشعل بينهم وبين الفقهاء حربا شعواء، وأخذ الغزالى يفكر فى كل ذلك على هدى ما كتبه أبو نصر السراج والقشيرى فى رسالته، ورءى أنه لا بد من الوصل بين التصوف والشرع، فلا تصوف بدون الفرائض والنوافل ولا صلاة بدون عمل القلب والإخلاص وصدق السريرة، وأخذ يؤلف موسوعته الرائعة «إحياء علوم الدين» بقصد تنمية الجوانب الروحية فى الفرائض الشرعية وبيان الوسائل إلى ذلك بحيث تصل النفس إلى مبتغاها من محبة الله. وأتمّ الكتاب فى دمشق. واستقبلته استقبالا عظيما لأن متصوفتها لم يكونوا قد انحرفوا بتصوفهم إلى مزالقه التى وصفناها فى إيران، بل كانوا دائما يجمعون بين التصوف والشريعة، إلا من دفعته السياحة إلى ديارهم من متصوفة إيران.

على كل حال كانت إقامة الغزالى بدمشق وبيت المقدس فاتحة التئام وثيق بين الفقهاء والمتصوفة، وزاد هذا الالتئام توثقا نزول حملة الصليب بديار الشام، ولعل ذلك ما جعل حكامها التابعين للدولة السلجوقية يأخذون فى العناية ببناء الخانقاهات للمتصوفة، من ذلك بناء دقاق بن تتش لخانقاه الطواويس بدمشق. ودعم هذا التصوف السنى عناية نور الدين ثم صلاح الدين وسلاطين الحكم الأيوبى ونساؤهم وأمراؤهم ببناء الخانقاهات والرّبط فى ديار الشام ووقف الرواتب والأموال التى تنفق على متصوفتها عن سعة. وقد عدّ ابن شداد فى الجزء المنشور من كتابه الأعلاق الخطيرة الخاص بدمشق خانقاهاتها وحدها فبلغت تسع عشرة وبالمثل عد رباطاتها فبلغت أيضا تسعة عشر رباطا. وكان لا يزال يخرج منها صفوف وجنود لجهاد حملة الصليب. وفى هذه

<<  <  ج: ص:  >  >>