الأثناء ظهرت ببغداد طريقة صوفية سنية هى الطريقة القادرية لمؤسسها الشيخ عبد القادر الجيلانى المتوفى سنة ٥٦١ واعتنقها كثيرون لا فى العراق وحدها بل أيضا فى الشام والبلدان العربية. وتبعها ظهور طريقة صوفية سنية ثانية هى الطريقة الرفاعية لمؤسسها الشيخ أحمد الرفاعى المتوفى سنة ٥٧٨ وانتظم فيها كثيرون فى العراق والشام وشاعت سريعا فى العالم العربى.
ومعنى ذلك أن التصوف السنى الجامع بين علم الحقيقة أو علم التصوف وبين علم الشريعة أو علم الفقه وما يتصل به من السنة تداخلت عوامل كثيرة فى أن يكون هو التصوف الشائع فى الديار الشامية. وحاول التصوف الفلسفى القائم على أفكار الحلول والاتحاد بالله أن يتسرب إلى الشام عن طريق يحيى السهروردى الإيرانى، وكانت له فلسفة صوفية إشراقية ألممنا بها فى حديثنا عنه فى الفصل الرابع من قسم إيران، وذكرنا هناك بأنه كان يؤمن بأن النبوات لا تنقطع وأن الحكيم الصوفى من أمثاله أفضل من الأنبياء، وكفرّه فقهاء حلب وحملوا الملك الظاهر بن صلاح الدين على قتله، فقتله سنة ٥٨٧ للهجرة.
وكان من أثر دخول الشعوذة على التصوف، وخاصة فى إيران، ظهور فرقة بدمشق سنة ٦١٩ تسمى القلندرية وهم أتباع قلندر يوسف، لا يتقشفون ولا يتنسّكون ولا يصلون سوى الفرائض، ويحلقون لحاهم وحواجبهم. وتسرّب ثانية إلى الشام جدول صوفى فلسفى زاخر على لسان محيى الدين بن عربى المولود بمرسية فى الأندلس سنة ٥٦٠ وقد تلقى تعاليمه فى إشبيلية وفارقها فى الثلاثين من عمره إلى المشرق لحج بيت الله الحرام. وظل فى مكة فترة ثم بارحها مطوّفا فى البلاد العربية ودخل الأناضول «وألقى عصاه بدمشق وبها توفى سنة ٦٣٨». وكان إماما فى التصوف الفلسفى القائل بوحدة الوجود وصنّف كثيرا من الكتب أهمها الفتوحات المكية والفصوص، وله غير ديوان، ومن أهم دواوينه ترجمان الأشواق، وكان شاعرا مبدعا كما كان كاتبا بارعا. وعلى الرغم من اتجاهه الفلسفى فى التصوف استطاع أن ينجو من العامة والفقهاء، فلم يحكموا عليه بالكفر أو الإلحاد كما حكموا على السهروردى، بل لقد وجد بينهم مريدين كثيرين مما هيأ فيما بعد لكى يظل التصوف الفلسفى-على قلة-حيّا بجانب التصوف السنى، وكانت عباراته فى كتاباته تحتمل ظاهرا وباطنا، ظاهرا مع السنة وباطنا مع التصوف الفلسفى، وجعل ظاهرها كثيرين يبرئونه من تهمة الإلحاد على نحو ما مر بنا فى مصر عند الشعرانى.
وتعنى دولة المماليك بالخانقاهات والرّبط وزوايا المتصوفة، وترصد لها أموالا كثيرة، مما كان سببا فى ازدهار التصوف وازدياد طرقه بجانب طريقتى القادرية والرفاعية السالفتين، فشاعت فيه