تسع سنوات أعظم كوكب فى سماء الشعر العربى لزمنه: المتنبى الذى ملأ الدنيا بوصفه لبطولته وملاحمه مع الروم.
وتحكم الدولة الفاطمية الشام نحو قرن، وفى أثنائه يتقلص حكمها عن حلب إذ لم تكد تستقر فى يدها لأوائل القرن الخامس الهجرى حتى استولى عليها بنو مرداس كما مر بنا فى الفصل الماضى، ولا يبقى معها فى العقد السابع من هذا القرن سوى صور وجنوبيها على شاطئ البحر المتوسط حتى غزة. ومن يرجع إلى كتب التراجم فى تلك الفترة يجد هناك كثيرا من طبقات العلماء من محدثين وفقهاء وقراء ومفسرين ونحاة. وليس بين أيدينا نصوص توضح مدى الرواتب والأموال التى كان يبذلها الفاطميون ونوابهم وولاتهم لعلماء الشام. ولكن يكفى أن تكون الشام أنتجت فى هذه الحقب أبا العلاء أكبر مفكر متفلسف إسلامى. وأكبر من تحمل مؤلفاته وأشعاره كل فروع الثقافة لزمنه، يكفى ذلك للدلالة على ما كانت تحظى به الحركة العلمية والفلسفية والشعرية من خصب وازدهار رائع. وقد استقل بنو مرداس بحلب، ويصور ابن العديم فى كتابه زبدة الحلب من تاريخ حلب رعايتهم للشعر والشعراء، وكان الشعر فيها لا يزال حيّا ناشطا منذ سيف الدولة، على الأقل من حيث استقبال الشعراء وبذل العطاء لهم. وكان جلال الملك ابن عمار قاضى طرابلس استقل بها لسنة ٤٧٠ وحاول أن يحدث بها حركة علمية شبيهة بما أحدث الفاطميون من دار العلم لعهد خليفتهم الحاكم، فأنشأ بها دارا سماها بنفس الاسم، وجعلها على غرارها فى تنوع الدراسات بها وفى جلب الكتب الكثيرة إليها (١)، وكان من الممكن أن تحدث هذه الدار نشاطا علميا واسعا فى الشام، غير أن حملة الصليب سرعان ما قدموا واستولوا على طرابلس سنة ٥٠٢ وأقاموا فيها إحدى إمارتهم، وبذلك وئدت حركتها العلمية وهى لا تزال ناشئة فى المهد.
ويدخل أكثر الشام فى حكم السلاجقة كما مر بنا فى غير هذا الموضع، وكان وزيرهم نظام الملك المتوفى سنة ٤٨٥ رأى أن ينشئ مجموعة من المدارس فى المدن الكبيرة لدولتهم فى إيران والعراق لمحاربة النحلة الإسماعيلية ونشر المذهب الشافعى والعقيدة الأشعرية الكلامية، وعرفت كل مدرسة من هذه المدارس باسم المدرسة النظامية. وكان السلاجقة كلما دان لهم بلد لم يلبثوا أن أسّسوا فيه مدرسة، وظلت المساجد بجانب مدارسهم ساحات كبيرة للعلم والمعرفة، وهو ما جعل العلم العربى بجميع فروعه شعبيّا، فكل فرد من أفراد الشعب يحق له أن يجلس إلى أى حلقة من