للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٣٣٩. وأحدث نزول الفارابى بحلب نشاطا فلسفيّا وفكريّا ظل سنوات مقامه بها وامتد بعد وفاته، ومعروف أنه عنى بمزج فلسفة أرسطو بالمذهب الأفلاطونى الجديد. ولعل مما يدل على اتساع النشاط الطبى والعلمى والفلسفى بالشام لتلك الأيام ما ذكره القفطى عن سيف الدولة من أنه كان إذا أكل الطعام وقف على مائدته أربعة وعشرون طبيبا ثم يقول: كان فيهم من يأخذ راتبين لأجل تعاطيه علمين ومن يأخذ ثلاثة رواتب لتعاطيه ثلاثة علوم، ويذكر أن طبيبه المسمى عيسى النفيسى كان يأخذ ثلاثة رواتب: راتبين بسبب إحسانه لعلمين وراتبا ثالثا جزاء ترجمته من السريانية إلى العربية (١). وذكر القفطى بينهم فى موضع آخر من كتابه ابن كشكرايا (٢) وكان طبيبا مشهورا عيّنه فيما بعد عضد الدولة البويهى بالبيمارستان المنسوب إليه ببغداد، كما ذكر أيضا بين من كانوا يحضرون مجالس سيف الدولة أبا القاسم (٣) الرقى، وكان من أصحاب التنجيم وعلم الهيئة والطب.

وهذا نشاط لعلماء الأوائل فى بيئة واحدة من بيئات الشام أثناء القرن الرابع، ويبدو أنه بقيت بقايا من هذا النشاط زمن الفاطميين بدمشق وشاطئ الشام وعند المرداسيين بحلب والسلاجقة فى حلب ودمشق، يدل على ذلك ما يلقانا من أطباء مختلفين فى تلك الديار مثل اليبرودى (٤) فى القرن الخامس وظافر (٥) بن جابر السكرى ومبشر (٦) بن فاتك فى نفس القرن ومثل ابن الصلاح (٧) وابن البذوخ (٨) فى القرن السادس. ومن المؤكد أن نزول حملة الصليب بديار الشام أصاب هذه الحركة بغير قليل من العطل، ومع ذلك فقد تحولوا تلامذة لأطباء العرب يتعلمون على أيديهم فنونا من الجراحة والطب، ورأى بعض أطباء العرب-كما روى أسامة بن منقذ-أحد أطبائهم يعالج بعض مرضاه علاجا يدل على جهله بالطب، فسخر منه سخرية شديدة، وسجل على الصيلبيين عامة انحطاط الطب عندهم انحطاطا مزريا، على نحو ما صور ذلك فى كتابه «الاعتبار».

وندخل فى زمن الزنكيين ونور الدين محمود وصلاح الدين والأيوبيين، ويعظم الاهتمام بالمرضى وبمن يعالجهم من الأطباء، وتنشأ لهم بيمارستانات، ينزلونها وتقدم لهم فيها الأدوية


(١) القفطى ص ٢٥٠
(٢) القفطى ص ٤٠٣
(٣) القفطى ص ٤٢٩
(٤) ابن أبى أصيبعة ص ٦١٠
(٥) ابن أبى أصيبعة ص ٦١٤
(٦) القفطى ص ٢٦٩
(٧) القفطى ص ٤٢٨ وابن أبى أصيبعة ص ٦٣٨
(٨) ابن أبى أصيبعة ص ٦٢٨

<<  <  ج: ص:  >  >>