للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التصنيع أى التنميق حتى يشمل البديع وألوانه الحسية المعروفة كما يشمل الزخرف المعنوى على نحو ما صورنا ذلك عند أبى تمام (١). على كل حال شاعر الشام أبو تمام المتوفى حوالى سنة ٢٣٠ للهجرة هو الذى تلقى بسرعة البرق هذا المذهب الجديد عن مسلم بن الوليد قبل اكتماله وأعطاه صورته النهائية (٢). ومن ذلك نخلص إلى أن الشام إن كانت قد تأخرت فى صنع كتب البلاغة والنقد من الوجهة النظرية فإنها سبقت إلى الرقى ببلاغة الكلام نثرا وشعرا كما عند العتابى الكاتب والشاعر البليغ وأبى تمام حامل لواء الشعر فى زمنه غير منازع.

وما نتقدم طويلا فى القرن الرابع الهجرى حتى نلتقى بأكبر حلقة نقدية أدبية طالما طمحت إليها أنظار الشعراء الشاميين، ونقصد حلقة حلب التى تكونت حول سيف الدولة بطل القوى العربية المصارعة للبيزنطيين. وكان سيدا بالمعنى العربى الكامل شجاعا كريما نبيلا مثقفا شاعرا، وهب نفسه لحرب البيزنطيين وسحقهم، كما وهبها هى وما له لإحداث حركة أدبية تنافس بها حلب بغداد إن لم تتفوق عليها، وطارت شهرته فى إكرام العلماء والشعراء كل مطار، وسرعان ما التفّ حوله وعاش فى كنفه من تحدثنا عنهم آنفا من الفلاسفة والأطباء وعلماء التنجيم واللغويين والنحاة وكثرة من الشعراء وكأنما لم يبق شاعر نابه فى إيران والعراق والموصل والشام إلا أقبل إلى هذه الندوة الفكرية التى عاش فيها المتنبى تسع سنوات طوالا، وحوله من العلماء أمثال ابن جنى اللغوى والشعراء أمثال النامى والكتاب أمثال أبى بكر الخوارزمى، وهم يدوّنون شعره ويتدارسونه ويتناقشون معه حوله. ولزمه ابن جنى-كما مر بنا-وشرح ديوانه شرحين: كبيرا وصغيرا، وكان أبو على الفارسى يراه حجة فى اللغة لا نظير له. وكان إذا سئل عن لفظة فى شعره أو تعبيره ساق عليه الشواهد الكثيرة من أشعار العرب، وتصادف أن أنشد سيف الدولة أولى قصائده (٣):

وفاؤكما كالرّبع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وكان ابن خالويه حاضرا فقال له: يا أبا الطيب إنما يقال شجاه، توهمه فعلا ماضيا وهو صيغة تفضيل فقال له أبو الطيب: اسكت فما وصل الأمر إليك (٤). وكان ذلك سببا فى أن فسد


(١) الفن ومذاهبه فى الشعر العربى (الطبعة العاشرة-نشر دار المعارف) ص ٢٣٩
(٢) الفن ومذاهبه ص ٢٤٧
(٣) يخاطب المتنبى بالبيت صاحبين له على عادة العرب. أشجاه: أحزنه. طاسمه: دارسه. بأن تسعدا: بالمساعدة فى البكاء. يقول لصاحبيه: اسكبا معى الدمع فإنه أشفى للغليل كما أن الربع أكثر شجا للمحب إذا درس.
(٤) نزهة الألباء بتحقيق الأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم (طبع ونشر دار نهضة مصر) ص ٢٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>