للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما بينهما طوال مقام المتنبى عند سيف الدولة. وظل ابن خالويه يكنّ له الضغينة، واستطاع أن يؤلّب عليه أبا فراس وبعض من كانوا حول سيف الدولة، مما جعل المتنبى يغادر حلب إلى غير مآب. والمهم أنه كان ينعقد من حين لآخر غبار من النقد اللغوى حول شعر المتنبى فى حلقة سيف الدولة، وصور من هذا النقد كانت تنعقد بين شعراء الحلقة، وكثيرا ما كانوا يتحاورون فى سرقاتهم ممن سبقوهم من الشعراء، وهم أثناء ذلك يتناشدون أشعارهم أو أشعار سابقيهم مستحسنين تارة ومستهجنين أخرى. وجميعها صور من النقد الذى يصقل الملكة الأدبية، وصوّر ذلك أبو بكر الخوارزمى الكاتب المشهور وأحد من تزود بما كان فى الحلقة من نقد خصب، فقال: «ما فتق قلبى وشحذ فهمى وصقل ذهنى وأرهف حدّ لسانى وبلغ هذا المبلغ بى إلا تلك الطرائف الشامية واللطائف الحلبية التى علقت بحفظى وامتزجت بأجزاء نفسى، وغصن الشباب رطيب ورداء الحداثة قشيب» (١).

ونلتقى بعد هذه الحلقة بأبى العلاء، وقد تعددت وجوه نقده اللغوى، فهو يضمنها شروحه لدواوين أبى تمام وسمّاه ديوان حبيب وديوان المتنبى وسماه معجز أحمد-كما مر بنا-وراجع البحترى مرارا ناقدا له ولذلك سمى شرحه لديوانه-كما أسلفنا-عبث الوليد وهو اسمه والبحترى لقبه، واختار الاسم للكتاب لما فيه من تورية واضحة. وهو يتكلم فى شروحه للشعراء الثلاثة عما فى أشعارهم من غريب ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وأحيانا ينتصر لهم وأحيانا ينتقدهم مع التوجيه-ما استطاع-لما يظنّ أن أبا تمام والمتنبى أخطآ فيه. ولأبى العلاء فى رسالة الغفران نقد كثير أجراه فى القسم الأول على لسان صديقه ابن القارح حين أدخله الجنة وجعله يلقى الشعراء والرجاز ويعرض أثناء ذلك نقدا متنوعا لرواية الأشعار ولألفاظها العويصة وتراكيبها النحوية وبعض العيوب فى أوزانها وقوافيها. وسوّى من هذا النقد فى الرسالة الدكتور أمجد الطرابلسى كتابا بعنوان: «النقد واللغة فى رسالة الغفران» ويظل النقد نشيطا فى الشام حتى أيام العثمانيين إذ نجد يوسف البديعى (٢) المتوفى سنة ١٠٧٣ يؤلف كتابين نفيسين فى النقد والتاريخ الأدبى، هما «هبة الأيام فيما يتعلق بأبى تمام» و «الصبح المنبى فى الكشف عن حيثية المتنبى» وهو يعرض فى الكتابين سيرة الشاعرين عرضا تفصيليا كما يعرض آراء النقاد السابقين فيهما، ولا يكاد يترك خبرا مهما يتصل


(١) اليتيمة للثعالبى (بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد) ١/ ١٤
(٢) انظر فى البديعى خلاصة الأثر ٤/ ٥١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>