الألقاب فى الدولة البيزنطية بعد لقب الإمبراطور. وأهم من ذلك أنه زار بيزنطة واستطاع أن يقنع إمبراطورها وحواشيه بتعيين يعقوب البرادعى أسقفا على الكنيسة المونوفيستية السورية، وكانت تخالف العقيدة الرسمية للكنيسة البيزنطية. ويقال إن يعقوب رسم مائة ألف كاهن ونصّب تسعة وثمانين أسقفا فى البلاد. ومعنى ذلك أن الحارث بن جبلة كان يعد أقوى سيد فى سوريا والشام، ولذلك دلالته البعيدة فى نفوذ القبيلة بالشام وفى مدى ما حدث حينئذ من تعرب بعض الشاميين وخاصة من رجال الكنيسة اليعقوبية. وكان الغساسنة كثيرى الحركة والتنقل من بقعة إلى أخرى، وتتردد على ألسنة مادحى ملوكهم من الشعراء ذكر جلّق وكانت منازل بالقرب من دمشق على نهر بردى المشتهر ببساتينه، وأشهر من جلّق الجابية وكانت على مسافة يوم من دمشق إلى الجنوب الشرقى.
وإنما أطلنا فى بيان ذلك كله لندل على أن الشام كانت قد أخذت تستعرب منذ قرون عدة قبل الإسلام، ولا ريب فى أن الفتح الإسلامى العربى زاد هذا الاستعراب حدة وقوة، وخاصة أن قبائل الغساسنة وقضاعة وغيرهما ممن كانوا اعتنقوا النصرانية نبذوا سريعا الدين المسيحى ودخلوا فى الدين الحنيف، ودخله معهم كثيرون من أهل الشام لما رأوا فى شريعته السمحة من الإنصاف والمساواة بين الناس ومن العدل الذى لا تصلح حياة أمة بدونه. وكان حكامهم البيزنطيون قد أساءوا معاملتهم إلى أبعد حد وساموهم ضروبا من العذاب والخسف وأرهقوهم بالضرائب الفادحة إرهاقا لا يطاق، بينما رأوا حكامهم المسلمين الجدد يرفعون عنهم كل ظلم وكل ثقل فى الضرائب مسوّين بين كل من يسلم منهم وبين الجند الفاتح فى جميع الحقوق، غير مستأثرين لأنفسهم بشئ، مهما يكن قليلا أو تافها. فلا عجب أن يدخلوا فى الدين الحنيف أفواجا.
وقد استوطن الشام كثير من الجند الفاتحين له، وكانوا من قبائل مختلفة شمالية وجنوبية، وظلت الجزيرة العربية ترفدهم بسيول طوال الحقب الأولى للحكم الأموى، واستقرت منها عشائر وبطون فى بلدان الشام حتى بلدانه الداخلية مثل حمص وطرابلس وبيروت وقيسارية وغيرها من مدن سوريا ولبنان وفلسطين. وبذلك حدث مزج قوى بين العرب المهاجرين وبين أهل الشام لا عن طريق الإقامة والاستيطان فحسب بل أيضا عن طريق المصاهرة والاختلاط اليومى بين الأسر والناس، مما دفع بقوة إلى استعراب الشام سريعا. وظل من أهم دوافعه دخول الأسر الشامية أو بعض أفرادها فى الإسلام، إذ جزء لا يتجزأ منه تلاوة القرآن، ولن يستطيع أحد أن يتلوه تلاوة سديدة دون تعلم لغته، أو بعبارة أخرى دون استعرابه. وربما كان مما يؤكد كثرة من