فى كتابنا «العصر العباسى الأول» وللبحترى ترجمة فى كتابنا «العصر العباسى الثانى». ونشرف بعد البحترى على نهاية القرن الثالث، ولا تزال للعصر العباسى الثانى بقية زمنية، وفيها يسطع نجم شاعر الطبيعة الحلبى الصّنوبرى وله ترجمة فى كتاب هذا العصر.
ونمضى فى عصر الدول والإمارات، وقد عنى بالحديث عن شعراء القرن الرابع الهجرى ومطالع القرن الخامس الثعالبى فى يتيمته، متحدثا عن الشعراء النابهين فى أقاليمه من أواسط آسيا إلى الأندلس. ويلاحظ فى فواتح كتابه أن كفّة الشعر العراقى التى كانت تجعله يرجح على جميع الأقاليم العربية شاما وغير شام قد خفّت وخلفتها كفة الشام، إذ يستهل يتيمته بقوله: «الباب الأول من القسم الأول فى فضل شعراء الشام على شعراء سائر البلدان وذكر السبب فى ذلك ثم يقول: «لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها فى الجاهلية والإسلام. . والسبب فى تبريز القوم قديما وحديثا على من سواهم فى الشعر قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق لمجاورتهم للفرس ونبط (فلاحى) العراق ومداخلتهم إياهم. . ورزقوا ملوكا وأمراء من آل حمدان. . وهم بقية العرب، والمشغوفون بالأدب والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين أدوات السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجذل ويفضل». ولسنا نريد أن نناقش الثعالبى فى هذا الحكم، فإنه-على ما فيه من مبالغة- يدل على ما حدث بالشام مع مطالع عصر الدول والإمارات من نهضة شعرية حقيقية تنبئ عنها الأبواب التالية فى اليتيمة، فقد جعل الثعالبى الباب الثانى لسيف الدولة الحمدانى أمير حلب وشمالىّ الشام وملح شعره وغزواته الحربية المظفرة على لسان شعرائه. وقصر الباب الثالث على أبى فراس الحمدانى الشاعر والفارس المشهور. وخص الباب الرابع بملح أشعار آل حمدان أمراء الشام وقضاتهم وكتابهم. وأفرد الباب الخامس للمتنبى شاعر سيف الدولة المبدع. وجعل الأبواب:
السادس والسابع والثامن لبعض المادحين لسيف الدولة من شعراء الشام والعراق.
ومرّ بنا كيف أن حلب فى زمن سيف الدولة (٣٣٣ - ٣٥٦ هـ) استحالت أكبر مركز علمى وفلسفى ولغوى، إذ نزلها كثير من العلماء والمتفلسفة واللغويين من أمثال الفارابى وأبى على الفارسى وابن جنى غير من كان بها من الأطباء وعلماء الفلك. ولا يهمنا الآن بيان ذلك إنما يهمنا أنها أصبحت مركز الشعر والشعراء فى تلك الحقب، إذ لم يبق شاعر كبير فى الشام أو فى العراق أو فى إيران إلا أمّها وأسبغ عليه سيف الدولة من نواله، حتى ليقول الثعالبى إنه لم يجتمع قط بباب أحد