للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا فى سبيل المجد ما أنا فاعل ... عفاف وإقدام وحزم ونائل

وإنى وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل

وهذا الصوت القوى المفاخر المباهى بالمجد والعبقرية يكاد يختفى بعد ذلك من الديوان، إذ يعود أبو العلاء إلى صوته الحقيقى: صوت اليأس من الناس والحياة والمعرفة بالدهر وتصاريف أيامه ولياليه. وهو يذكر الليل وظلمته كثيرا، ولعل ذلك بسبب فقده لبصره، وأيضا بسبب تشاؤمه وما حمل من أثقال الدنيا دون أن يجد معينا. وقد شكا كثيرا من أنه لا يجد فى الدنيا صديقا ولا أخا يصفيه الوداد، مع كثرة بغضه للانفراد، حتى ليقول:

ولو أنّى حبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علىّ ولا بأرضى ... سحائب ليس تنتظم البلادا

ويبالغ أبو العلاء فى سوء ظنه بالناس فى نفس هذه القصيدة الدالية، فيقول إن الجوزاء منزل عطارد المنسوب إليه السّلم لو خبرت الناس خبرته وبلاءه وجرّبت من كيدهم ما جرّب وعرفت من خبث سرائرهم ما عرف لما طلعت عليهم ليلا ولا تراءت لهم مخافة أن يصل إليها كيد من كيدهم، يقول:

فظنّ بسائر الإخوان شرّا ... ولا تأمن على سرّ فؤادا

فلو خبرتهم الجوزاء خبرى ... لما طلعت مخافة أن تكادا

ومضى يخفف حدة التشاؤم الأسود المعتم ببروق كثيرة من الفخر، فمكانه فى السؤدد فوق السموات السبع رفعة وعلاء، وإنه ليفلّ نوائب الأيام وكوارثها وحده بقوته ومضائه.

وفى رأينا أن أروع قصائد أبى العلاء فى سقط الزند مراثيه لأنها تفصل من ذات نفسه ومن أهمها مرثيته لصديقه الفقيه.

غير مجد فى ملّتى واعتقادى ... نوح باك ولا ترنّم شادى

وشبيه صوت النّعىّ إذا قي‍ ... س بصوت البشير فى كل نادى

وواضح أنه يقول فى مطلعها إن البكاء الحزين كالغناء الفرح دلالتهما واحدة، إذ سرعان ما تتحول البشارة بالمولود-مهما طالت حباته-صراخا عليه، حتى لكأن الصوتين متشابهان أو مختلطان اختلاط شجو الحمامة فلا يدرى السامع أتبكى محزونة أم تغنى مبتهجة. ويمضى

<<  <  ج: ص:  >  >>