للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهو يأبى الضيم شاعرا بالكرامة شعورا عميقا، حتى لو أحسّ أن بلدا ينبو به رحل عنه إلى غير إياب، ويبالغ فى بيان فضله قائلا إنه شاع بين الإنس والجن، وإن اعتراه خمول بين أهله فمثله مثل عود الهند لا يعرف فضله فى دوحته، بينما رائحته العطرة تملأ السهل والحزن من الأرض.

ونظل نستمع إلى هذا الصوت الأجش المعتز بنفسه وكرامته طوال أيام المماليك وبالمثل أيام العثمانيين كقول ابن الجزرى المار ذكره (١):

يقدّمنى عزمى وحظّى مؤخّرى ... ويوصلنى حزمى ودهرى يقطّع

وهمّى من الدنيا المعالى ونيلها ... وما همّ قلبى الرّقمتان ولعلع (٢)

ولا رشأ أحوى ولا صوت قينة ... ولا قدح فيه الرّحيق المشعشع (٣)

ولكنما لدن وأجرد سابح ... ومسرودة زغفا وأبيض يسطع (٤)

وهو صاحب عزم وحزم ونفاذ فى الأمور وإن لم يسعفه الحظ والدهر. وهمه طلب المعالى والظفر بها لا بمن يسكن روضتى الرقمتين وجبل لعلع من سمر الشفاه، ولا بمن يتغنين غناء جميلا، ولا بالأقداح من رحيق الخمر وشرابه. إنما همه رمح لين قاتل وفرس مسرع ودرع واسعة محكمة وسيف ساطع يضئ فى غبار الحرب حين يسله على رقاب الأعداء. إنه من أهل العزم والحزم والمعالى لا يشغف بحب ولا بغناء ولا بخمر، إنما يشغف بالبأس فى الحرب وتقتيل الرجال وسفك دمائهم.

وبجانب هذا الفخر كان يدور هجاء كثير، وخاصة لمن لا يجزون الشعراء الجزاء الوفر وكثيرا ما كانت تحتدم بينهم المنافسات، فيفزعون إلى سهام الهجاء يصوبها الخصم منهم إلى خصمه صباح مساء. وقد يصبح الهجاء سهاما سامة قاتلة، وقد يصبح سخرية جارحة، وقد يصبح دعابة وإن لم تخل من مرارة، كقول عبد المحسن الصورى وقد نزل ضيفا على أخ له (٥):

وأخ مسّه نزولى بقرح ... مثل ما مسّنى من الجوع قرح

بتّ ضيفا له كما حكم الده‍ ... ر وفى حكمه على الحرّ قبح


(١) ريحانة الالبا ١/ ١١٨
(٢) الرقمتان: قريتان فى شرقى نجد أو روضتان ويذكرهما شعراء الغزل. لعلع: جبل فى نجد
(٣) الرشأ: ولد الظبية وتشبه به الفتيات، والحوة: سمرة فى الشفة، الرحيق المشعشع: العسل الممزوج
(٤) اللدن: الرمح. أجرد. فرس. مسرودة: درع. زغفا: سابغة. أبيض: سيف
(٥) اليتيمة ١/ ٣٠٠

<<  <  ج: ص:  >  >>