الأيوبيين والمماليك مما أتاح للتصوف ازدهارا عظيما.
وكان قد أخذ يظهر فى التصوف تياران كبيران: تيار سنى كانت تتبعه جماهير الشعب، وفيه تأسست طرق صوفية متعددة، من أهمها الطريقتان القادرية والرفاعية على نحو ما صورنا ذلك فى غير هذا الموضع. وكان بجانب هذا التيار تيار فلسفى يقوم على أفكار الحلول والاتحاد بالله، ولم تكن له شعبية التيار الأول، وقد مثّله فى القرن السادس الهجرى يحيى السهروردى الذى ترجمنا له فى إيران وأنشدنا بعض أشعاره. ومثّل هذا التيار فى القرن السابع محيى الدين بن عربى الذى نشأ فى الأندلس، ثم رحل إلى البلاد العربية والأناضول وألقى عصاه فى دمشق، وله كتب كثيرة من أهمها الفتوحات المكية. وله أيضا دواوين بديعة، لأبياتها ظاهر وباطن، ظاهر يتفق مع السنة وباطن يتفق مع تصوفه الفلسفى. وشغف كثيرون من أهل الشام بأدبه وشعره منهم من يقف به عند ظاهره ومنهم من يتغلغل فى أعماقه. وأخذت أشعاره وتعاليمه الصوفية الفلسفية، وبالمثل أشعار السهروردى وأيضا أشعار ابن الحلاج الصوفى المتفلسف القديم تؤثر هى وأشعار التيار الصوفى السنى فى كثيرين بحيث أصبح للشام تراث صوفى شعرى. وبدون ريب أكد هذه النزعة الصوفية فى الناس ظهور الطريقة القلندرية التى ظهرت فى القرن السابع الهجرى مع ما داخلها من انحرافات ذكرناها فى الفصل الأول، وأيضا ظهور الطريقتين النقشبندية والبكتاشية لأواخر زمن المماليك.
وسنترجم فيما بعد لثلاثة من شعراء الصوفية الذين تمثلوا التيار الصوفى الفلسفى، وهم ابن سوار وعفيف الدين التلمسانى وعبد الغنى النابلسى، أما ابن عربى فعداده فى الأندلسيين، وقد نزل دمشق بأخرة من عمره.
وكان يقترن بنزعتى التصوف والزهد مديح نبوى كثير، وهو قديم منذ عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم ومديح حسان بن ثابت وكعب بن زهير وغيرهما من الشعراء له تنويها بخلقه الكريم ورسالته العظمى وجهاده فى سبيل الله وفتوحه. وحين نشطت الحركات الشيعية نشط معها مديحه، إذ انبثّ كثير منه فى مدائحهم لأئمتهم العلويين وفى مراثيهم للحسين على نحو ما نجد عند الصنوبرى الذى ترجمنا له فى كتاب العصر العباسى الثانى. . ولأبى العلاء فى اللزوميات قصيدة فى مديحه، وفيها يشيد به وبرسالته النبوية الخالدة قائلا:
دعاكم إلى خير الأمور محمد ... وليس العوالى فى القنا كالسوافل
حداكم على تعظيم من خلق الضّحى ... وشهب الدّجى من طالعات وآفل
فصلّى عليه الله ما ذرّ شارق ... وما فتّ مسكا ذكره فى المحافل