أبو شامة فى كتابه الروضتين:«من شاهد القتلى قال ما هناك أسير، ومن عاين الأسرى قال ما هناك قتيل». واستعرض صلاح الدين كبار الأسرى، ولم يكن همه إلا رايجنالد صاحب الكرك لما مر من محاولته غزو مكة والمدينة، ولما مثل بين يديه قال له: ها أنا أنتصر منك لمحمد صلّى الله عليه وسلم، وعرض عليه الإسلام، فلم يسلم، فسلّ خنجره وضربه ضربة قاتلة ورميت جثته على باب الخيمة.
وطمأن بقية زعمائهم، غير أنه أمر بقتل من أسروا من الداويّة والإسبتاريّة لحبسهم أنفسهم على قتال المسلمين. وغصّت حينئذ أسواق دمشق بأسرى الصليبيين المسترقين، وبلغ من كثرتهم أن كان يباع الأسير منهم بثلاثة دنانير.
وعلى أثر هذه الموقعة العظيمة فتحت القلاع والمدن فى فلسطين وجنوبى لبنان أبوابها لصلاح الدين الأيوبى، فاستولى على عكا وحيفا ونابلس وبيت جبريل (بئر سبع) وغزة والرملة وبيروت وصيداء. ولم يبق فى الجنوب سوى الكرك والشوبك، وبقيت صور التى لجأت إليها فلول الصليبيين. وعزم صلاح الدين على فتح بيت المقدس، فحاصرها وضايقها بالزحف والقتال والمنجنيقات، حتى أسلمها من كان بها من الصليبيين راغمين خاسئين فى السابع والعشرين من رجب سنة ٥٨٣ ونكّس الصليب الضخم الذى كانوا قد أقاموه على قبة الصخرة، وأزيلت كل آثار الصليبيين من المسجد الأقصى وأقيمت به صلاة الجمعة بين التهليل والتكبير والضجيج بالدعاء، وأمر صلاح الدين أن يزيّن المسجد بالفسيفساء والرخام، ونقل إليه منبرا فخما من حلب لا يزال به إلى اليوم. وظن أنه لم يعد فى حاجة إلى جيوش ضخمة بعد انزواء الصليبيين فى صور وطرابلس وأنطاكية، فتخفف من جيوشه وعاد كثير من عساكره إلى بلادهم، وظلت البلاد المتبقية من فلسطين تدخل فى حوزته، مثل صفد والكرك والشّوبك وحصن كوكب. واستولت عساكره على بعض الحصون فى لبنان وشمالى أنطاكية، كما استولت على اللاذقية.
وأشعل سقوط القدس الحرب الصليبية من جديد، إذ أخذ البابا يصرخ فى الملوك، وحمل الصليب لحرب المسلمين فى فلسطين سنة ٥٨٧ فردريك الأول إمبراطور ألمانيا وفيليب ملك فرنسا وريتشارد «قلب الأسد» ملك إنجلترا، ومنيت حملة فردريك فى أثناء اجتيازها آسيا الصغرى بخسائر لا تكاد تحصى فى الأرواح، ولم يبق منها إلا فلول، أما حملتا فيليب وريتشارد فقدمتا من البحر، وحاصرتا عكا وسقطت فى أيدى الصليبيين بعد دفاع مستميت من حاميتها، وعاد فيليب إلى فرنسا، وظل ريتشارد حتى سنة ٥٨٨ يقود الجيوش الصليبية وينازل صلاح الدين. واستولى على