من ذلك سيطرتهم على الحجاز والحرمين، ووضع بيبرس تقليدا أن يسافر محمل إلى مكة سنويا يحمل الكسوة الشريفة، وهو تقليد لا يزال قائما إلى اليوم. وعنى بوضع نظام دقيق للإدارة فى مصر والشام كما عنى بالبريد، فكان الخبر يصل من دمشق إلى القاهرة فى ثلاثة أيام.
وظل طوال حكمه يعدّ جيوشه ويزحف بها لحرب الصليبيين والتتار وغزو أرمينية والسلاجقة بآسيا الصغرى وغزو النوبة فى الجنوب. أما الصليبيون فاستولى على كثير من قلاعهم وحصونهم ومدنهم مثل قيسارية وأرسوف وصفد وتبنين والرملة ويافا وحصن الأكراد والقرين القريبة من عكا وصافيتا وصفا والشقيف. ولم يلبث أن استولى على أنطاكية سنة ٦٦٧ فانهارت المملكة الشمالية التى كان قد أقامها الصليبيون، ومعروف أن زنكى استولى من قديم على مملكتهم القديمة الرّها واستولى بعده صلاح الدين على مملكتهم فى بيت المقدس. ومازال الظاهر بيبرس ذاهبا آيبا من الفرات لحرب التتار وسحقهم، وغزا السلاجقة فى آسية الصغرى، وفتح أرمينية الصغرى مرتين واستقصى فتح حصون الإسماعيلية بالقرب من اللاذقية، وفتح دنقلة كرسى بلاد النوبة، ودانت له بالطاعة. ومن أهم أعماله أنه أقام فى سنة ٦٦٣ لكل مذهب من المذاهب السنية الأربعة:
المذهب الحنفى والمالكى والشافعى والحنبلى قاضيا، وظل العمل بذلك جاريا فى عصر المماليك، وفى أيامه سنة ٦٧٥ طافوا بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوما مشهودا، وهو أول من فعل ذلك بالديار المصرية. وشيد مسجدا كبيرا بالقاهرة لا تزال أطلاله قائمة إلى اليوم.
وهو يعدّ من أبطال مصر والعرب العظام أمثال صلاح الدين، ويعد عصره من العصور الإسلامية الذهبية، وظلت بطولته فى حروب التتار والصليبيين عالقة بالأذهان أزمنة طويلة، وألفت حولها قصة مشهورة، ومازالت الأجيال تزيد فيها إيمانا بفروسيته الخارقة. وقد توفى سنة ٦٧٦ بدمشق ودفن بها، وتولى بعده ابنه الملك السعيد، ولم يكد يدور به فى الحكم عامان حتى ثار عليه أمراء المماليك وخلعوه وولوا أخاه بدر الدين سلامش وكانت سنه لا تتجاوز السابعة، وجعلوا قلاوون أتابكا له.
وسرعان ما استغل قلاوون الفرصة، فاستخلص الملك لنفسه، وتلقب باسم السلطان المنصور، وهو من أعظم سلاطين المماليك حزما وعزما وتدبيرا وبأسا، وقد اتبع سياسة الظاهر بيبرس فى الإيقاع بالتتار والصليبيين أما التتار فنازلهم مرارا وأنزل بهم خسائر فادحة حتى رضخوا وطلبوا منه الصلح مدحورين، وأما الصليبيون فقد صمم على إزالة مملكتهم الرابعة والأخيرة فى طرابلس، ونازلها سنة ٦٨٨ وفتحها قهرا بالسيف، وملك ما جاورها من القلاع والبلدان مثل