جبيل وبيروت. وكان قد حدث شغب فى بلاد النوبة، فذهب إليها بعض قواده ورمّ ما بها من شغب. وتوفى سنة ٦٨٩ وظل الملك فى أبنائه وأحفاده نحو مائة عام، وخلفه ابنه الأشرف خليل، وكان شجاعا وبطلا مغوارا، فصمم على طرد الصليبيين من الشام، فجمع عساكره وتوجه إلى عكا فوصلها فى يوم واحد ويسّر الله له فتحها فى يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة ٦٩٠ وكان الصليبيون استولوا عليها بأخرة من أيام صلاح الدين فى يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة سنة ٥٨٧ وقتلوا المسلمين بها، فثأر لهم السلطان خليل وقتل من كان بها من الصليبيين حين فتحها. وانحلت عزائم الفرنج بعد عكا وأخذ السلطان خليل صور وصيداء وحيفا واستسلمت قلاع الصليبيين الأخرى، وتطهرت البلاد من رجسهم وإثمهم، فلم تبق لهم فى الشام بلد ولا قلعة ولا قرية ولا جزيرة.
والعجب أن يكافى المماليك السلطان خليلا على هذا العمل الباسل العظيم جزاء السلطان المعظم توران شاه بعد واقعة المنصورة، فيتآمروا على قتله، وتنجح مؤامرتهم سنة ٦٩٣ ويخلفه أخوه الناصر محمد، وهو لا يجاوز التاسعة من عمره، ويعيّن كتبغا نائبا له، وما يكاد يدور العام حتى يستولى على السلطنة، ويغتصبها منه بعد عامين لاجين، وتعود بعد عامين آخرين إلى الناصر محمد بن قلاوون سنة ٦٩٨. وتنشب حروب بينه وبين تتار العراق، وترجح كفتهم ويستولون على دمشق وغيرها من مدن الشام ويعيثون فيها فسادا. ولا يلبث الناصر محمد أن يجمع لهم جيشا كثيفا سنة ٧٠١ وينازلهم فى مرج الصّفر بالقرب من دمشق ويسحق جموعهم سحقا، وتولّى فلولهم الأدبار نحو العراق وبغداد لا تلوى على شئ. ويأخذ كبار المماليك فى التنافس حول السلطة ويخشى الناصر محمد أن يفتكوا به فيذهب إلى الحج ويعتزلهم فى الكرك جنوبى الأردن، ويرسل إليهم بكتاب يعلن فيه تنازله عن الحكم، ويتفق المماليك على تولية ركن الدين بيبرس سنة ٧٠٨ ولا يدور العام حتى يعود الناصر محمد إلى سلطنته ويتولى الحكم فى مصر والشام للمرة الثالثة سنة ٧٠٩. وكان المصريون يحبونه حبّا شديدا، وكان عهده عهد رخاء عظيم ويتضح فى كثرة المنشآت التى أسسها من مدارس ومساجد وخانقاهات. وبلغت الدولة فى عهده أوج مجدها، فقد قضى أبوه وأخوه، كما قدمنا، على الصليبيين نهائيا، ولم تبق منهم باقية، وانتصر هو على التتار فى ولايته الثانية على مصر انتصارا حاسما، وعقدوا معه صلحا سنة ٧١٩ ولم يعودوا يفكرون فى الغارة على الشام.
ويظل الناصر فى الحكم حتى سنة ٧٤١ ويخلفه أبناؤه وأحفاده حتى سنة ٧٨٤ وتعود مصر