وفرض ضريبة على النطرون وعلى المراعى وعلى المصايد فأسقط ابن طولون ذلك كله. واستقلّ بمصر، وفتحت له كنوزها، وأغدقت عليه من طيباتها، فكوّن جيشه الضخم، وأخذ فى بناء قصره خارج الفسطاط وقطائع لعساكره من الترك والسودان والروم وغيرهم وأيضا لقواده، وعمرت مدينته القطائع وتفرقت فيها الحارات والشوارع والأزقة والحوانيت والسّكك وبنيت المساجد والطواحين والحمامات والأفران. وبنى جامعه الكبير وأنفق عليه مائة وعشرين ألفا من الدنانير، وبنى بيمارستانا وأنفق عليه ستين ألف دينار، وجعل أمام قصره ميدانا كبيرا للعب كرة الصولجان، أنفق عليه خمسين ألف دينار. وكان ينفق على مطبخه فى كل يوم ألف دينار، وكان يعمل سماط عظيم، وينادى: من أحب أن يحضر سماط الأمير فليحضر، وكان الناس يأكلون ويحملون ما يشاءون. وكان ما يدخل إلى خزائنه فى كل سنة بعد نفقاته مليون دينار، وخلّف فى خزائنه من الذهب حين موته عشرة ملايين من الدنانير.
واستقر السلطان بعده لابنه خمارويه وعظم دخل الدولة، وأخذ خمارويه يغرق إلى أذنيه فى النعيم، فزاد فى عمارة قصر أبيه، وجعل الميدان الذى أمامه بستانا وزرع فيه أنواع الرياحين والورود وأصناف الشجر وكسا النخل نحاسا تخرج من عيونه المياه وتنحدر إلى فساقىّ يفيض الماء منها إلى مجار تسقى سائر البستان، وسرّح فيه طيورا حسنة الصوت وطواويس مختلفة، وجعل لنفسه مجلسا سماه دار الذهب طلا حيطانه بالذهب واللازود وجعل فيه تماثيل أو صورا بارزة لحظاياه ومغنياته وعلى رءوسهن الأكاليل من الذهب والجواهر المرصعة. وجعلت فى هذا البستان بين يدى القصر فسقية من الزئبق طولها خمسون ذراعا وكذلك عرضها، كان يرى لها فى الليالى المقمرة منظر عجيب حين يتألف نور القمر بنور الزئبق. واتخذ خمارويه بيوتا للسباع وغيرها من الوحوش سوى الإصطبلات الواسعة للخيل. وكانت حلبات السباق فى أيامه تقوم مقام الأعياد، ويقال إن عرض الخيل حينئذ كان من عجائب دار الإسلام. ومما يدل على ما وصلت إليه الدولة من ثراء جهاز ابنته قطر النّدى حين زوّجها الخليفة العباسى المعتضد، وكان من جملته دكة تتألف من أربع قطع من الذهب عليها قبة من الذهب مشبكة بها أقراط فى كل قرط حبة من جواهر لا يعرف لها قيمة، وكان فى الجهاز مائة هاون من الذهب، وبنى خمارويه-كما مرّ بنا-قصر فى كل منزل تنزل به ابنته من مصر إلى بغداد.
ومما يدل على ثراء مصر لعهد الطولونيين ثراء واسعا أن أبا بكر محمد بن الماذرائى عامل الخراج ووزير خمارويه تملك من الضياع ما بلغ دخله أربعمائة ألف دينار فى كل سنة سوى ما كان يؤدّيه من