إلى أصحابها إلا قليلا. وكان المفروض أن يثقل صلاح الدين كواهل المصريين بالضرائب الباهظة من أجل السلاح والإنفاق على جيوشه، غير أن الذى حدث كان عكس ذلك تماما، فقد خفّف الضرائب عن المصريين ورفع عنهم أكثر المكوس إن لم يكن كلها، حتى ليقول المقريزى إنه أسقط منها ما يزيد عن مليونى دينار ومليونى أردب وبالمثل أسقط عن أهل الذمة ضرائب كثيرة حتى قالوا إن كل ما كانوا يدفعونه للدولة لم يكن يزيد عن مائة وثلاثين ألف دينار. ولعل مما يدل أكبر الدلالة على أنه لم يكن يمتص شيئا من أموال الناس وأن كل ما كان يؤول إليه من الجوالى والضرائب ينفق فى الحرب دون أن يختزن منه أى شئ لنفسه ما ذكره ابن تغرى بردى وغيره من المؤرخين مثل ابن شداد فى سيرته من أنه حين لبّى نداء ربه لم يوجد فى خزائنه من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعون درهما ناصريا ودينارا واحدا ذهبا صوريّا، ولم يخلّف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا ضيعة ولا مزرعة. ويروى ابن تغرى بردى أن ابنه العزيز كان يسير سيرته فى الرعية، ويقول إنه وهب لصياد دينارين، وتعذّر عليه أن يدفع له هذا المبلغ اليسير. وبالمثل كانت سيرة خلفائه سيرة عادلة، وكانوا دائما كأنهم مرابطون لحرب الصليبيين، وقد مات السلطان نجم الدين أيوب وهو يجاهد لويس التاسع وخلفه ابنه توران شاه-كما مر بنا فى غير هذا الموضع- فأنزل به هزيمة ساحقة، وهو آخر سلاطين هذه الدولة بمصر الذين ظلوا يجاهدون الصليبيين حتى الأنفاس الأخيرة من حياتهم.
وعنى صلاح الدين ببناء القلعة وبناء كثير من المدارس والرّباطات، وظل خلفاؤه يعنون بالعمران، مما أنعش الصناعات فى القاهرة، وكانت صناعة الثياب مزدهرة بتينّس وغيرها. وقد عنى الأيوبيون بالتجارة، وعقدوا-كما يقول بروكلمان-سلسلة من الاتفاقات التجارية مع الدول الأوربية مما عاد بفوائد كثيرة على التجار المصريين، وكانوا يعنون بالزراعة ونظم الرى عناية فائقة.
ويصف ابن جبير فى رحلته لعهد صلاح الدين ريف مصر وقراه التى لا تحصى كثرة، ويقول إن العمارة فيها متصلة، وفيها الأسواق وجميع المرافق. ولحقته صلاة الجمعة بإحدى هذه القرى فصلّى بها الإمام فى مجمع حفيل وخطب خطبة بليغة جامعة. ويشيد بالمارستان الذى بناه صلاح الدين بالقاهرة وما فيه من عناية بالمرضى، ويذكر موضعا فيه مقتطعا للنساء ومقاصير عليها نوافذ من حديد اتّخذت محابس للمجانين، كما يذكر مارستانا آخر بالفسطاط على ذلك الرسم بعينه.
ويذكر جزيرة الروضة ومبانيها المشرفة الحسان ويقول إنها مجتمع اللهو والزينة، فأهل الفسطاط والقاهرة لم ينسوا حتى فى عهد صلاح الدين وحروبه وجهاده لهوهم ومرحهم، وحقا لم يعن