سوداوان كأنهما مكحولتان تحدّ بهما النظر إلى ما حولها.
وعلى هذا النحو يعرض علينا زهير تلك البقرة بهيئة جسدها وهيئة نفسها، لنستعد إلى ما سيفجؤها من كوارث. وهو يثبت هيئتها فى نفوسنا بما يصوره من تفاصيل جسدها ولون خديها وعينيها. ولا يلبث أن يصور لنا فاجعتها فى ولدها، وقد أعدنا لذلك منذ البيت الأول، فهى مسافرة، مسرعة فى العودة، وقد أخذها الذعر. لقد خرجت تطلب الرى والرعى، وعاودها الحنين إلى ولدها، بل عاودها الخوف الشديد، وكانها تعرف أنها تركته وراءها للسباع. وعادت ويا لهول ما رأت، لقد رأت بقايا ابنها من أشلاء وجلود ودماء، والطير تحجل حوله، فأخذها الحزن الشديد. إن أملها فى الحياة فقدته. وقد عادت تجرى فى الصحراء مذعورة تتلفت يمينا وشمالا تنظر هل هناك ما تخشاه، وإنها لتخشى رماة عشيرة الغوث الذين تعودوا أن يطاردوها بسهامهم وكلابهم من كل مرصد. ومرت على جانبها الأيمن، كأنها تظنه أكثر أمنا، وهى تتراءى فى لونها الأبيض وقوائمها المخططة كأنها الثوب الناصع الجميل، ولم تكن تدرى أن الموت يرصدها، حتى رأت رأى العين رماة الغوث، وقد أخذوا عليها جميع الطرق والمسالك، وأرسلوا عليها كلاب الصيد، فولت مسرعة، والكلاب تلاحقها وهى تارة تسبق أوائلها، وتارة تلحقها الكلاب فتنوشها بقرنيها. وما زالت تعدو حتى أفلتت من غمرة الموت يسعفها قرنها الأسود وما أثارته بينها وبين الكلاب من غبار كأنه الدخان. ويصور زهير سرعة قوائمها وخفة حركتها بخذاريف الصبيان التى يديرونها دورانا سريعا بخيوط يشدونها إلى أيديهم، وقد سبقه امرء القيس إلى هذه الصورة فى وصف سرعة فرسه، إذ قال فيه كما مر فى غير هذا الموضع:
وقد حاول زهير أن يضيف زيادة جديدة فجعل القوائم ملتئمات أى متناسقات كما جعلها متقابلات، فهى كخذاريف لا كخذروف واحد، يقابل بعضها بعضا.
والحق أننا نحس إزاء زهير أنه استوفى كل ما كان ينتظر الشاعر الجاهلى من براعة فى التصوير. وقد كان يحف هذه البراعة بضروب من الوقار تتضح فى مدائحه وأهاجيه وغزلياته جميعا، فهو يحتفظ بكرامته دائما، ولعل ذلك ما جعله ينفر من