شديدا، كما جعل الحكام من المماليك وغيرهم يخشونهم ويحسبون حسابهم. ولعلنا لم ننس ما مر بنا فى نشأة جماعة من المتصوفة بالإسكندرية والفسطاط وأنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعارضون الحكام أحيانا. ونرى المتصوفة يستظهرون هذا كله فى أيام المماليك، فإذا ثارت العامة لفساد أو طغيان أو انحلال فى الأخلاق كان المتصوفة من وراء ثورتها، وكان سلاطين المماليك يرهبونهم وينفّذون لهم ما يريدون. ومما يدل على مكانتهم لزمانهم أن نجد طومان باى بأخرة من سلاطين المماليك لا يقبل السلطنة إلا بعد أن يأخذ له الشيخ أبو السعود الجارحى العهد على الأمراء جميعا، فقد لجأ إلى صوفى ولم يلجأ إلى شيخ الإسلام والفقهاء والقضاة فى عصره.
وقد أفضنا فى الحديث عن التصوف السنى وطرقه فى أيام المماليك، ولم نعرض للتصوف الفلسفى إلا عند ابن الفارض، وكأن مصر انصرفت عنه إلا ما قد يفد عليها مع بعض أصحابه مثل الششترى الأندلسى، وعفيف الدين التلمسانى نزيل دمشق وساكنها المتوفى سنة ٦٩٠. وربما كان المصرى الوحيد الذى اعتنق التصوف الفلسفى ومذهب ابن عربى فيه عبد العزيز بن عبد الغنى الحسنى من الأسرة الحسنية بينبع، نزل أبوه مصر، وسكن هو الصعيد وشغف بالتصوف. وينقل ابن حجر فى ترجمة له بكتابه الدرر الكامنة أنه من أتباع ابن عربى، وربما لقيه حين زار مصر، أو لعله رحل إليه فى دمشق، إذ عاش نحو مائة سنة وتوفى سنة ٧٠٣ وكأن مذهب ابن عربى فى الحلول والاتحاد بالذات الإلهية وجد له عن طريقه مسربا إلى مصر.
على أنه ينبغى أن نذكر أن التصوف بأخرة من أيام المماليك وفى أيام العثمانيين أخذ ينحرف عن طريقه السوى القديم، بسبب تحول خانقاهاته ورباطاته وزواياه الى تكايا وسعت كثيرين من الدجالين والمشعوذين ومن سموّا بالمجاذيب والدراويش. وكان منهم من يحلق رأسه ولحيته وشعر حاجبيه ورموش عينيه، ومن يدعى الكرامات وأنه من أولياء الله، والله براء منه، لا نحرافه عن جادّة الدين. على أنه ينبغى ان لا يبالغ الباحثون فى الحملة على المتصوفة فى الأزمنة المتأخرة، إذ مما لا شك فيه أنهم هم وأسلافهم السابقين استطاعوا دراويش وغير دراويش أن يحافظوا للإسلام طوال الأزمنة الماضية على وحدته السنية حتى فى زمن العثمانيين: أكثر الأزمنة تدهورا وتأخرا. ولعل أكبر صوفى مصرى ظهر فى زمنهم هو الشعرانى المتوفى سنة ٩٧٣ وكان واسع المعرفة عميقها بالعلوم الإسلامية وكذلك بالتصوف واتجاهيه الفلسفى والسنى، إذ قرأ ابن العربى وابن الفارض كما قرأ الغزالى والقشيرى وغيرهما من أصحاب الطرق الصوفية، وآثر التصوف السنى وانتظم فى سلك الطريقة الشاذلية، وحاول أن يكوّن لنفسه طريقة متفرعة منها سماها الطريقة