للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بأموالهم. ويقال إنه كان ليونس بن عبد الأعلى أحباس (١) (أوقاف). وكأن طيبات مصر وخيراتها صبّت فى حجور العلماء. فكان منهم كثيرون فى يسار ونعمة، وكانوا يصلون زملاءهم وتصلهم الدولة وكبار التجار والموسرين، مما هيأ للعلماء أن يخلصوا للعلم وينبغوا فيه.

وظاهرة ثانية تلاحظ بجانب الظاهرة السابقة وهى أننا لا نكاد نتقدم إلى أواسط القرن الثانى للهجرة حتى يصبح لعلماء مصر حظ واضح من المساهمة فى الفكر الإسلامى العربى، وقد ظلت أكثر من قرن تتلقى آثار هذا الفكر وتحاول أن ترعاها وأن تضيف إليها من شخصيتها ما ينميّها، وغلب عليها حينئذ التلقى والتلمذة، فهى تتلقى قراءات الذكر الحكيم والحديث النبوىّ والفقه واللغة والأخبار والتاريخ العربى الإسلامى، وتسيغ ذلك كله وتتمثله حتى إذا توسطت القرن الثانى للهجرة أخذت تسهم بحظ قوى فيما تتلقاه. ولعل من الطريف حقا أنها أخذت تتزعم بقوة المغرب والأندلس جميعا، فإذا هى تعدّهما لقراءة ورش ولاستقبال مذهب مالك إمام المدينة والحجاز. وليس ذلك فحسب، فإنها هى التى كتبت لأول مرة تاريخ الفتوح لإفريقيا والأندلس، وأذاعت رواية للسيرة النبوية، سنتحدث عنها فيما بعد، كانت إماما لكتب السيرة العطرة، ونفذ أحد أبنائها وهو ذو النون المصرى إلى وضع أسس التصوف، كما مرّ بنا فى الفصل الماضى. ومعروف أنها استقبلت على رأس المائتين الإمام الشافعى وحملت عنه مذهبه ونشرته فى بلدان العالم الإسلامى، بحيث غدا أكثر المذاهب الفقهية الأربعة ذيوعا وانتشارا.

وعلى هذا النحو أصبحت مصر فى زمن الولاة مركزا مهما من مراكز العلم وقصدها الطلاب من أطراف المغرب والأندلس لحمل العلم عن علمائها المختلفين. ونمضى إلى زمن الدولة الطولونية فنرى الحركة العلمية نامية ناشطة على نحو ما تصور ذلك أسماء العلماء المصريين والوافدين المدّونة حسب تاريخ الوفيات والتخصصات العلمية فى كتاب حسن المحاضرة. ويبنى أحمد بن طولون جامعه المشهور ويرتّب لإملاء الحديث النبوى فيه الربيع بن سليمان المرادى ويحمل إليه صناديق المصاحف وينقل إليه القرّاء والفقهاء (٢). وليس بين أيدينا نصوص توضح أعطياته للعلماء، ويبدو أنها كانت كثيرة إذ يروى أنه كان يعطى القاضى بكّار بن قتيبة كل سنة ألف دينار خارجا عن المقرر له وأنه ظل على ذلك أعواما كثيرة (٣). ولا بد أن عطايا مقاربة كانت تعطى للقراء والفقهاء والمحدّثين والقائمين على دراسة التاريخ واللغة والأدب. وأخذت مصر منذ زمن ابن طولون (٢٥٤ -


(١) ابن خلكان ٣/ ٢٥٠
(٢) خطط المقريزى ٣/ ١٤٦ وما بعدها
(٣) ابن خلكان ١/ ٢٧٩

<<  <  ج: ص:  >  >>