للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وارجع إلى ما عرضناه من أشعاره فستجد التشبيهات تتراكم فيها، وستراه دائما حين يفكر فى شئ يلمع فى ذهنه نظيره، محاولا أن يربط بين الشبيه والشبيه بعلاقة لا تنفصم. وهى علاقات ننتقل بينها معجبين، بل هى مشاهد تجلب لنا البهجة والمسرة، إذ كان يعرف كيف يأتى منها بالنادر الطريف على شاكلة قوله الذى أنشدناه فى وصفه للظّعن وقصدها إلى غايتها:

بكرن بكورا واستحرن بسحرة ... فهنّ لوادى الرّسّ كاليد للفم

وليس كل ما يلاحظ عنده كثرة التشبيهات ولا وقوعه على نوادرها، بل لعل أهم ما يلاحظ أنه يعنى بتفصيل التشبيه إذ لا يزال يلحّ على الصورة التى يعرضها، وكأنه يريد أن يستوفيها بجميع دقائقها وتفصيلها استيفاء، كقوله فى وصف بعض صواحبه:

تنازعها المها شبها ودرّ النّ‍ ... حور وشاكهت فيها الظّباء (١)

فأما ما فويق العقد منها ... فمن أدماء، مرتعها الخلاء (٢)

وأما المقلتان فمن مهاة ... وللدّرّ الملاحة والصفاء

فهو لا يشبه صاحبته ببقر الوحش والدر والظباء تشبيها عامّا ويمضى، بل يعود إلى تفصيل تشبيهه، فهى تشبه الظباء فى جيدها الطويل الجميل وبقر الوحش فى سواد عينيها الفاتنتين والدر فى ملاحته وصفائه ولمعانه وبهائه.

وإذا كان زهير أتقن لون التشبيه من حيث كثرة الصور والتعمق فيها والإلحاح عليها بالتفاصيل فإنه أتقن لون الاستعارة إتقانا لعل شاعرا جاهليّا لم يبلغ مبلغه فيه، وارجع إلى معلقته وإلى صور الحرب التى أنشدناها فإنك تجد الاستعارات فيها تتلاحق، فالحرب أسد ضار، بل هى نار مشتعلة، بل هى رحى تطحن الناس، بل هى ناقة تنتج غلمان شؤم، بل هى أرض مغلة غلة قبيحة ليس فيها منافع للناس إنما فيها الموت الزؤام. وقد مثّل-كما مرّ بنا-حياة العرب فى حروبهم الدائرة وما يتخللها من فترات راحة بصورة قوم يرعون مراعى وخيمة، حتى


(١) المها: بقر الوحش. شاكهت: شابهت.
(٢) الأدماء: الظبية البيضاء. الخلاء: الموضع الخالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>