للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذا أخذهم الظمأ الشديد وردوا على مياه وخيمة، بل على دماء مسفوحة. ونراه فى نفس المعلقة يصف شجاعا ويصوره فى صورة أسد فيقول:

لدى أسد شاكى السّلاح مقذّف ... له لبد أظفاره لم تقلّم (١)

وواضح أنه استتم فى استعارته صورة الأسد بشعره المسترسل على منكبيه وأظفاره المسنونة التى لم تقلم يوما والتى إن نشبت فى شئ أتت عليه.

ولم يكن زهير يكثر من الاستعارة فى شعره فحسب، بل كان أيضا يحاول أن يأتى فيها بالصور النادرة الغريبة كقوله فى أحد مطالعه:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله ... وعرّى أفراس الصّبا ورواحله (٢)

وهو فى الشطر الأول يقول إن قلبه كفّ عن حب سلمى، وقد أراد على طريقته أن يعبر عن هذا المعنى بصورة، فذهب يتخيل، وبعد به خياله، فإذا هو يتصور أسباب حبه وصبوته التى كان دائما يلزمها أفراسا ورواحل يركبها إلى صاحبته، وكان طريقه إليها مشغولا دائما بهذه الرواحل والأفراس. وقد انتهى اليوم كل شئ، فقد انصرف عن سلمى وحبها، ولم تعد تشغله أسباب صبوته القديمة.

وهى صورة بعيدة لا تقع إلا فى ذهن يكثر من التخيل والإغراق فى التصور، ذهن يتعمق فى الأشياء والمعانى، حتى يتخيلها أحياء حقيقية.

وأكبر الظن أننا لا نغلو إذا قلنا إن زهيرا كان شاعرا مصورا، فالتصوير أساس فنه، وكأنما تحول عقله إلى آلة لاقطة، وهى ليست آلة فوتوغرانيه، بل هى آلة خالقة، آلة تفكر فى الأشياء من خلال أشياء أخرى فتعقد ما لا يحصى من مشابهات ومشاكلات، وما تلبث أن تتمثل فيما يقع تحت حسها أشباحا وأطيافا تتراءى لها واضحة تمام الوضوح.

ومهما تحدثنا فى هذا الجانب فلن نستطيع أن نوفى زهيرا حقه من بيان مقدرته التصويرية، وكأنى به كان الثمرة النهائية للجهود الفنية التى أودعها الجاهليون أشعارهم، فهو من جهة قد صقل أسلوبه إلى أبعد غاية «من الصقل» ومن جهة ثانية


(١) شاكى السلاح: تام السلاح. مقذف: غليظ اللحم. لبدة الأسد: ما تلبد على كتفيه من شعره.
(٢) أقصر: كف. الأفراس: جمع فرس. الرواحل: الإبل.

<<  <  ج: ص:  >  >>