غير أنه جعل بين يديه مبحثين: مبحثا فى السرقات الشعرية عامة، ومبحثا فى فنون البديع، وهو فيه يذكر أولا مصطلحاته التى دونها ابن المعتز فى كتاب البديع ثم يذكر ما أضافه قدامة فى نقد الشعر، ويستمد من كتاب ثالث لا يسمى صاحبه، وربما كان كتاب حلية المحاضرة للحاتمى.
والكتب الثلاثة فعلا أهم كتب ألفت فى البديع قبله. وكأن مصر إن كانت قد تأخرت فى وضع المباحث البلاغية فإنها لم تقصر فى الاطلاع على ما وضعت العراق منها حتى زمن ابن وكيع، وظلت تعنى بعده بالاطلاع على مباحث العراقيين وغير العراقيين حتى نهاية زمن الفاطميين، تدل على ذلك كتابات على بن منجب الصيرفى المتوفى سنة ٥٤٢ وإذ نراه فى كتابه: قانون ديوان الرسائل يتحدث عن البلاغة حديثا سريعا وعرض فى بعض رسائله لفنى الجناس والتورية من فنون البديع.
ولعل أول كتاب بلاغى ألّف فى مصر بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة كتاب غرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات لعلى (١) بن ظافر الأزدى المصرى المتوفى سنة ٦٢٣. وسبقته فى نفس الموضوع كتب أخرى من أهمها كتاب التشبيهات لابن أبى عون وقد عرضنا له فى الجزء السابق من هذه السلسلة، وقد توفى سنة ٣٢٣. ويذكر ابن ظافر فى مقدمة كتابه أنه قدمه للملك الأفضل على بن صلاح الدين سنة ٥٨٧ فى حياة أبيه، وهو منشور بالقاهرة. وجعله ابن ظافر فى ستة أبواب: أولها فى تشبيه الأجرام العلوية والثانى فى تشبيه المياه والأنهار والثالث فى تشبيه الأنوار والأثمار والنبات والرابع فى التشبيه الواقع فى الخمريات والخامس فى التشبيه الواقع فى الغزل والسادس فى تشبيهات مختلفة. والكتاب يجمع طرف التشبيه فى هذه الموضوعات المتنوعة، وخاصة تلك التى دارت على ألسنة المحدثين من شعراء مصر والشام والعراق والمغرب والأندلس، واستعان فى ذلك بكتب الأدب العامة مثل اليتيمة للثعالبى والخريدة للعماد الأصبهانى. ونعجب إذ نرى شعراء العالم العربى معروضين فى الكتاب مع فرائدهم فى التشبيه، غير أن العجب يزول إذا عرفنا ما أكّدناه مرارا من أن العالم العربى كانت تسوده وحدة جعلت آثاره الأدبية والعلمية وكأنها آثار كل بلد من بلدانه، مما جعل دواوين الشعراء تتداول فى أوسع نطاق، بحيث لم يكن يظهر شاعر فى بلدة وينال شيئا من الشهرة حتى تتناقل ديوانه وأشعاره البلدان العربية المختلفة. ويلقانا
(١) انظر على بن ظافر فى معجم الأدباء ١٣/ ٢٦٤ وفوات الوفيات ٢/ ١٠٦.