للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تصلهم رسائل من الدواوين ويضطرون للرد عليها، فاضطروا لتعلم العربية، واضطرهم إلى ذلك أيضا النظام القضائى، فكان القبطى المدعى فى قضية أو المتهم فى حاجة إلى معرفة شئ من العربية. وكل ذلك عمل على ذبول القبطية، ولكن غير صحيح أنها أخذت فى الزوال من لسان القبط بعد نحو قرن من الفتح العربى كما زعم رونود وبعض الباحثين فقد ظلت حية، يدل على ذلك أكبر الدلالة ما رواه المؤرخون من أن المأمون حين زار مصر لسنة ٢١٧ بعد الفتح بنحو قرنين كان ينزل فى قرى مصر وضياعها ويستمع إلى القبط وما قد يكون لديهم من شكوى، والتراجمة بين يديه يترجمون له ما يقولونه بالقبطية (١). ويدور العام ويتولى الخلافة أخوه المعتصم، فيأمر كيدر واليه على مصر أن يقطع عطاء العرب من الديوان (٢). وكان ذلك بدءا حقيقيّا لتعرب مصر، فإن كل من كان بها من العرب حتى جند الدولة اضطروا إلى أن يزاولوا مع القبط حياتهم ابتغاء الكسب، فأخذوا يشاركونهم فى الزراعة، وهى مشاركة أقدم من ذلك منذ هجرة القبائل العربية الكبيرة إلى الحوف الشرقى فى أواخر العصر الأموى، غير أنهم جميعا الآن لم يعد لهم بدّ من هذه المشاركة لا فى الزراعة وحدها بل أيضا فى التجارة والصناعة. وبذلك أصبح العرب فى مصر جميعا مصريين، يشاركون القبط فى حياتهم المصرية وألوان الكسب فيها مشاركة تامة، وكان ذلك إيذانا بأن يتم تعرب مصر نهائيا، وأن تأخذ القبطية فى الزوال والامّحاء من ألسنة القبط فى الريف والقرى وتحل محلها العربية فى جميع الألسنة.

والحق أن موجة التعرب كانت حادة وقوية منذ زمن الفتح بسبب كثرة من اعتنقوا الإسلام من القبط حتى ليقول بتلر: «إن التاريخ لم يذكر فى حوادثه أمر أعجب من أن القبط انقسموا قسمين: قسم منهم امتزج كل الامتزاج بالإسلام، والقسم الآخر بقى على دينه» (٣). وهو يريد بامتزاج القسم الأول بالإسلام اعتناقه له ويعجب من ذلك، ولا عجب، لأنه يعرف السبب، كما مرّ بنا، وهو سماحة الإسلام والمساواة فى الحقوق بين من يسلم وبين الفاتحين وما يفرضه الدين الحنيف بين الطرفين من أخوة وثيقة. والمهم أن هذه الآلاف ممن أسلموا بل ربما الملايين، كما يدل على ذلك نقص ضريبة الجزية مما أشرنا إليه، أقبلوا على تعلم العربية، حتى يحسنوا أداء شعائر الإسلام. ولم يلبث أن نبغ منهم كثيرون تترجم لهم كتب التاريخ فى الفقه والشريعة من مثل


(١) خطط المقريزى ١/ ١٤١.
(٢) الولاة والقضاة الكندى (طبعة جيست) ص ١٩٣ والمقريزى ١/ ١٧٣.
(٣) بتلر ص ٤٢٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>