وقد انتقل ابن هانئ نقلة واسعة فقد جعل المعز نورا خالصا، وكأنما ليس فيه شئ من المادة ولا من الطبيعة البشرية، ويصرح بذلك إذ يقول إن العيان والحسّ إنما يشهدان سناه وضياءه فحسب، أما هو فكأنه الذات العلية لا تحيط الظنون بكنهه وحقيقته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويعود إلى مثل هذا الغلو الشائن فى مدحه للمعز قائلا:
أتبعته فكرى حتى إذا بلغت ... غاياتها بين تصويب وتصعيد
رأيت موضوع برهان يلوح وما ... رأيت موضوع تكييف وتحديد
وقد خطا ابن هانئ فى الغلو هنا خطوة أبعد من سابقتها إذ جعل المعز يخلو من كل صورة للمادة، بل كأنما جعله الخالق نفسه، إذ نفى عنه ما ينفيه المعتزلة عن الله من كل تشبيه وتجسيد، فلا حد له ولا كيف ولا هيئة بأى شكل من الأشكال. وقد بدأوا كما بدأ المسيحيون فى مسيحهم بأن فى الإنسان لا هوتا وناسوتا أو روحا وجسما. وبالغوا فخلّصوا-مثل ابن هانئ-أئمتهم من كل أثر للمادة، وجعلوهم روحا أو نورا خالصا، بل جعلوهم نفس الله بأسمائه وصفاته، حتى لنرى ابن هانئ يقول فى المعز:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهّار
فالمعز الواحد القهّار المنتقم العزيز القادر الغفار. وعلى هذا النحو زين لهم دعاتهم وشياطينهم أن ينزهوا الله عن أسمائه وصفاته فى القرآن الكريم ويسبغوها على أئمتهم، ضلال ما بعده ضلال ومروق لا يدانيه مروق. ومن هذا الباب ما يزعمه ابن هانئ فى المعز من أنه مقسّم الأرزاق بين العباد:
رأيتك من ترزقه يرزق من الورى ... دراكا ومن تحرم من الناس يحرم
فمن شاء رزقه ووسّع رزقه ومن شاء حرمه وضيّق عليه وجعل حياته ضنكا، وكل شئ فى الأرض بل فى الكون بمشيئته حتى ليقول ابن هانئ فيه:
أدار-كما شاء-الورى وتحيّزت ... على السبعة الأفلاك أنمله العشر