للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دورا كبيرا، وقد تبعه القصّاص والوعاظ المسلمون يزيدون فى النسيج خيوطا فإذا الأعشى كأنه واعظ من وعاظ الكوفة، يتحدث إلى الناس حديث عظة عن الدهر وتقلباته والموت وما طوى من الملوك وأسباب ترفهم ونعيمهم، وكيف يأتى على الناس، فالكل إلى فناء، ولا يبقى سوى وجه ربك ذى الجلال والإكرام ولا يبدو ذلك فى قصيدة من ديوانه أو قصيدتين، بل إنه يجرى فى قصائد كثيرة واقرأ قصيدته ذات الرقم ٢ فإنك ستراه يستهلها بالحديث عن حياة الإنسان وما يلقى فيها من العناء والشقاء بالموت وما ينزل به من الأمراض والأحزان، وكيف أن أحدا لا يستطيع الفرار من المنية، ويسترسل فى الحديث عمن مات من الملوك الأولين.

وفجأة يخرج إلى الحديث عن لذاته. ولعل من الطريف أن القدماء أنكروا القصيدة (١). ومثلها القصيدة رقم ٤ وفيها يتحدث عن طوافه فى البلاد، وقد أنشدنا منها فيما مر البيتين اللذين يذكر فيهما أنه زار أوريشليم والنجاشى فى أرضه، ولكن ليس هذا هو الذى نقف عنده فحسب، فقد مضى يتحدث عن قصة حصن الحضر وتخريب سابور له بجنوده، وينهى قصته تلك بقوله:

وفى ذاك للمؤتسى أسوة ... ومأرب قفّى عليها العرم (٢)

ويمضى فى هذه القصة قصة سد مأرب وخرابه وتشتت حمير فى البلاد، متخذا من ذلك عظة جديدة. وعلى هذا المثال قصيدته رقم ١٣ وفيها يحدثنا عن زرقاء اليمامة وكيف عصاها أهلها ولم يأتمروا بأمرها حين خوفتهم جيوشا قادمة، هى جيوش حسان تبّع، وقدمت الجيوش فجعلت عاليها سافلها وحطمتهم حطما، وقد شك القدماء فى القصيدة وأنكروها (٣). وليس فى القصيدة رقم ١٤ ذكر للملوك الأولين، ولكنها تحمل وصية خلقية بها كثير من الخيوط الإسلامية تجعلها أشبه بموعظة، إذ لا يعد القريب قريب النسب، وإنما هو قريب الود والبر، ويقول إنه ليس عاقا ولا ذا نميمة، وإنه لا ينتظر من الناس جزاءه وإنما ينتظره من ربه. ومثل هذه المعانى تجعلنا نشك فيها كما نشك فى القصيدة رقم ٣٣ وفيها حديث طويل عن فناء الحياة وأن كل شئ فيها إلى زوال، فالكل هالك كما هلك ساسان


(١) انظر الموشح للمرزبانى ص ٤٩.
(٢) العرم: سيل مشهور.
(٣) الموشح ص ٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>