للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ينس وطنه، بل ظل يحنّ له، وظل حنينه يترقرق فى تضاعيف أشعاره كأقوى ما يكون الشعور الصادق لدى المحبين الوالهين، كقوله مكنيّا عن مصر بالعقيق أحد وديان الأراضى المقدسة فى المدينة المنورة الذى طالما تغنى به شعراء الصبابة والحب الملتاع:

يا بارقا أذكر الحشا شجنه ... منزلنا بالعقيق من سبكنه

ومربع اللهو يانع خضل ... أم غيّر الدهر بعدنا دمنه (١)

يا برق هذا جسمى يذوب ضنّى ... ومهجتى بالعقيق مرتهنه

بلّغ حديث الحمى وساكنه ... لمغرم أنحل الهوى بدنه

أشقى المحبين عادم وطرا ... فكيف إن كان عادما وطنه

سقيا لأيامنا التى سلفت ... كانت بطيب الوصال مقترنه

لو بيع يوم منها وكيف به ... كنت بعمرى مسترخصا ثمنه

وابن النبيه فى أول الأبيات يخاطب برقا أذكره ما يعتلج فى أحشائه من الشجن أو الأشجان على بعده عن موطنه بوادى النيل، ويتساءل عن السكان والأحباب وهل لا يزال مربع اللهو والشباب كعهده به يوم فارقه من النضرة والجمال أم غيّر الدهر بعده الديار وتبدّل الحال. ويشكو للبرق ارتهان مهجته وراءه وتخلفها بمصر وكيف أنه يذوب ضنّا وسقما ونحولا متمنيا لو يسمع شيئا يطمئنه عن الحمى وساكنه. ويقول إن أشقى المحبين من عدم الوصال بمحبوبه فكيف بالمحب المفتون الذى عدم الوصال بوطنه، ويدعو بالسقيا لأيام وصاله الهنيئة الماضية له، ويتمنى لو حج إلى هذا الوطن المقدس تقديس العقيق أو عاد إليه، ويقول إنه يقدّم حياته كلها راضيا بيوم واحد يقضيه بين ربوعه. وابن النبيه بذلك يصور تصويرا رائعا تعلق المصريين فى غربتهم بوطنهم وشغفهم به ومدى حنينهم إليه وظمئهم إلى جرعة من نيله فى ظلاله وبين رياضه.

وإذا أخذنا نقرأ فى ديوان ابن النبيه أحسسنا بوضوح أنه يمثل فى غزله الروح القاهرية المصرية بكل ما عرف عنها من الدماثة والرقة وخفة الظل لا فى موسيقاه وجمال أنغامه فحسب، بل أيضا فى تصوير مشاعره ووجداناته وعواطفه، دون أى حجاب من أصداف المحسنات البديعية، فهو قلما يستخدمها بل يترك نفسه على طبيعتها، مما جعل غزله يرتفع إلى مستوى وجدانى سام، دون


(١) خضل: مبتل ندىّ. الدمن: جمع دمنة: آثار الديار.

<<  <  ج: ص:  >  >>