للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكأنى بصاحبته فى الأبيات هى نفس صاحبته الأولى، ويقول إن غرامها غريمه وذكرها نديمه طوال الليل، والتورية فى البيت الثانى بديعة فقد ملّه الحميم والصديق فى حب صاحبته، ولم يبق له إلا دمعه الحميم الحار يرافقه. ويسيل البيت الثالث صفاء وعذوبة مع ما فيه من الجناس وكذلك البيت الرابع وما به من اقتباس عن سورة «النبأ» وتعجب أن يتساءلوا ودموعه تجرى على خدودها، ويقول إن شامات خدودها الضاربات إلى السواد كأنها نقط مسك أو كأنها مقتطعة من حظه معها أو من ليله أو من هموم حبها المشتعل فى حنايا صدره. ويعجب أن يجمع خداها بجمرتهما المتوهجة بين نيران الجحيم حرارة وجنّات النعيم وورودها الفاتنة. ويعلن غيرته عليها حتى ليغار من النسيم إن هبّ على ما يشبه غصنها من غصون الرياض النّاضرة. ويقول:

يا من هجرت على هواهم عاذلى ... أيحلّ فى شرع الهوى أن أهجرا

طلعت بدور التّمّ من أزراركم ... فغدا اصطبار الصّبّ منفصم العرا

من كل هيفاء القوام كأنها ... غصن يحرّكه النسيم إذا سرى

ذكرت فصغّرها العذول جهالة ... حتى بدت للناظرين فكبّرا

وجهك معنى الحسن حتى أقبلت ... فرأيته فيها يلوح مصوّرا

لما درت أنى الكليم من الهوى ... جعلت جوابى فى المحبة لن ترى (١)

يا من إذا ما مرّ حلو حديثها ... أغناك عن مرّ العتيق وأسكرا (٢)

أرخصت يوم البين سعر مدامعى ... وتركت قلبى بالغرام مسعّرا (٣)

وهو يتضرع إلى صاحبته أن لا تذيقه ألم الهجران وأن تنقذه منه، فقد نفد صبره إذ رآها مع صواحبها الفاتنات وهن يمسن ميس الغصون حين يداعبها النسيم، ويقول إن العذول كان يحاول الغض من جمالها تسرية عن نفسه فلما رآها بهت وصاح. الله أكبر: أما هو فيرى فيها كل معانى الفتنة مصوّرة مغرية. ولما علمت مقدار وجده المبرح بها لم يأخذها عليه إشفاق أو رحمة، بل مضت تدلّ عليه، وتقول له: لن ترانى. ويعود إلى ندائها والتضرع إليها مصورا روعة حديثها وحلاوته المسكرة، ويقول لها: لقد أرخصت مدامعى وأسعرت قلبى أو أشعلته نارا موقدة. وفى البيتين الأخيرين طباق وجناس مندمجان فى هذا الأسلوب السهل السائغ، ويقول:


(١) الكليم: الجريح. لن ترى: لن ترانى.
(٢) يريد بالعتيق الخمر المعتقة.
(٣) فى مسعر تورية لأنها إما من السعر وهو المعنى المتبادر غير المراد، وإما من السعير أى الجحيم وهو المعنى المراد.

<<  <  ج: ص:  >  >>