للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القاطعة وعزمه الذى لا يفلّ، إنه مملوء فتوة وقوة صلبة ينيلانه كل ما يتمنى. وكان يعاصره الرشيد بن الزبير أخو المهذب الذى ترجمنا له فى الفصل الماضى وقلنا هناك إنه وقعت لأخيه الرشيد محنة باليمن إذ ذهب رسولا عن الدولة الفاطمية إلى أحد دعاتها فسجنه وهمّ بقتله مما جعل المهذب يستعطفه لأخيه بقصيدة رائعة، ردّ عليها بمجرد سماعها حريته، إذ عفا عنه وأطلقه، ونرى الرشيد يعلن فى قوة أن نفسه لم تنكسر ولم يصبها أى وهن بسبب هذا الحادث، يقول (١):

جلّت لدىّ الرّزايا بل جلت هممى ... وهل يضرّ جلاء الصارم الذّكر

لو كانت النار للياقوت محرقة ... لكان يشتبه الياقوت بالحجر

لا تّغررنّ بأطمارى وقيمتها ... فإنما هى أصداف على درر

ولا تظنّ خفاء النجم من صغر ... فالذّنب فى ذاك محمول على البصر

وهو يقول إنه تحمّل الرزايا والمصائب التى نزلت به جلدا شجاعا، بل لقد جلت همته جلاء السيف الباتر، ويضرب مثلا بالياقوت فالنار مهما اضطرمت لا تحرقه، وإلا كان حجرا لا غناء فيه. وينظر إلى أطماره وثيابه البالية فيقول لصاحبه: لا تغرنك هذه الأطمار الخلقة فإنها أصداف وقشور وأغطية للآلئ ثاقبة، ويضرب مثلا بالنجم فى السماء تستصغر الأبصار رؤيته، والذنب فى الصغر للبصر لا للنجم.

ونمضى إلى زمن صلاح الدين وما حققت مصر فى أيامه من مجد حربى عظيم بسحقها الصليبيين فى ديار الشام واستخلاص بيت المقدس وغيره من أيديهم ومحقهم محقا لا يكاد يبقى منهم ولا يذر. وكان لا بد لمصر من شاعر يتغنى لها بهذا المجد البطولى الذى توّجها به صلاح الدين، وتغنّى ابن سناء الملك أكبر شعرائها حينئذ ببطولة صلاح الدين وجنده المصريين فى قصائد حماسية مضطرمة، كما مر بنا فى ترجمته، وليس ذلك فقط، فقد مضى يفخر فى أشعاره فخرا عارما، وكأن كل ما تجمّع فى صدر صلاح الدين وأبطال جيشه من أحاسيس تجمّع فى صدر ابن سناء الملك وقلبه، فإذا هو يتغنى بمثل هذا النشيد الرائع (٢):

سواى يخاف الدهر أو يرهب الرّدى ... وغيرى يهوى أن يكون مخلّدا

ولكننى لا أرهب الدهر إن سطا ... ولا أحذر الموت الزّؤام إذا عدا (٣)


(١) ابن خلكان ١/ ١٦٢.
(٢) الديوان ص ١٦٥.
(٣) الزؤام: السريع.

<<  <  ج: ص:  >  >>