وأظمأ إن أبدى لى الماء منّة ... ولو كان لى نهر المجرّة موردا
ولو كان إدراك الهدى بتذلّل ... رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى
وإنك عبدى يا زمان وإننى ... على الكره منى أن أرى لك سيّدا
ولو علمت زهر النجوم مكانتى ... لخرّت جميعا نحو وجهى سجّدا
وكأنه لم يعبّر فى هذه الأنشودة الفريدة عن شعور كل مصرى لزمنه حمل السلاح وسفك به دماء الصليبيين المعتدين الآثمين فحسب، بل لقد عبّر بها عن شعور كل مصرى على مر الزمن بأمجاد أمته الحربية والحضارية. وإنه ليشمخ بنفسه فى أعلى الأفلاك والسموات، فإذا هو لا يرهب الدهر ولا يرهب الموت الزؤام، ولو مد الدهر طرفه إليه لنازله بعزم صادق يشعل الماء جمرا ملتهبا ويردّ السيف كليلا صلدا لا يقطع. ويمتلئ صدره بإحساس الكرامة، حتى إنه ليظمأ إن أبدى له الماء منّة، بل إنه ليموت ظمأ حتى لو كان نهر المجرة مورده وحقق له وروده كل ما أمّله، وحتى الهدى لو كان إدراكه بشئ من الهوان لرفضه. ويبلغ من استصغاره للدهر وأحداثه أن يشعر فى قوة بسيطرته عليه حتى كأنما ذلّ له ودان، بل حتى كأنما أصبح له عبدا مسترقّا، وهو مع ذلك يشعر فى كبرياء بتعاظم شديد عليه، حتى ليقول إن النجوم الساطعة لو رأت وجهه لخرت ساجدة تقدم له التراتيل، وكأنما تجسدت فى روحه مصر الخالدة الجديرة بكل تقديس.
ومن طريف ما يلقانا من الفخر بعده فخر ابن نباتة الكثير بشعره وكان حامل لواء الشعر فى زمنه، ومن قوله:
من مبلغ العرب عن شعرى ودولته ... أنّ ابن عبّاد باق وابن زيدونا
إذا رأيت قوافيها وطلعتها ... فقد رأت مقلتاك البحر والنّونا
كأنّ ألفاظها فى سمع حسّدها ... كواكب الرّجم يحرقن الشياطينا
وهو يقول إن من سمع شعره عرف أن الأندلس لم تنس، فلا تزال حية نضرة ولا يزال شعراؤها العظام من أمثال المعتمد بن عباد أمير إشبيلية وشاعره الوجدانى ابن زيدون. وقد ورّى فى البحر والنون يريد بهما بحر الشعر ونون القافية فى القصيدة لا الحوت، ويسمّى حساده باسم