للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأن لا يفكر الإنسان فى رزق الغد (١):

تأنّ ولا تجزع لأمر تحاوله ... فخير اختيار المرء ما الله فاعله

تفيّأ بظلّ الله من روض قوله ... ألست بكاف تلحقنك فواضله (٢)

وعزّ تهن دنياك واغن بتركها ... ولا تحفلن بالرزق فالله كافله

فهو يدعو إلى الصبر فى طلب الرزق وأن لا ييأس الإنسان، بل يدع شأنه لربه فإنه ضامن رزقه ولن ينساه، وحرى بالإنسان أن يستظل بمثل قوله: (أليس الله بكاف عبده) مؤمنا بأنه يتكفل بعباده ولا يترك ظامئا إلا سقاه ولا عاريا إلا كساه، وما العز الحقيقى إلا رفض الدنيا وما الغنى الحقيقى إلا تركها وعدم التعلق بها وأن لا يشغل الإنسان نفسه برزق الغد، فالله كافله وضامنه.

وقد تحدثنا فى الفصل الأول عن نشأة التصوف بمصر وأنه أخذ طريقه فيها إلى الظهور منذ سنة ٢٠٠ للهجرة ولم يلبث ذو النون المصرى المتوفى سنة ٢٤٥ للهجرة أن رفع صرحه سامقا، إذ يعد المؤسس الحقيقى للتصوف الإسلامى وترتيب أحواله ومقاماته، وقد ذكرنا أطرافا من آرائه الصوفية وبعض تلاميذه من أعلام الصوفية بعده فى الشام والعراق وإيران، وكأن مصر التى يرجع إليها الفضل فى قيام نظام الرهبنة فى المسيحية يرجع الفضل إليها أيضا فى قيام التصوف فى أركان العالم الإسلامى، أو قل بعبارة أدق يرجع الفضل فى قيامه إلى أحد أبنائها وهو ذو النون المصرى، ومرّ بنا تصوير ذلك من بعض الوجوه وكيف أنه كان أول من وضع تعريفا للوجد الصوفى وأول من ذكر كأس المحبة الربانية التى هى جوهر التصوف وقوامه، ومن ضيائها استمد فى قوله مخاطبا ربه (٣):

لك من قلبى المكان المصون ... كلّ لوم علىّ فيك يهون

لك عزم بأن أكون قتيلا ... فيك والصبر عنك ما لا يكون

وكأنه أول قتيل بل أول شهيد فى الحب الإلهى، فقد سبح فى بحاره وغرق بين أمواجه، غرق فى مياه عميقة، مادّا بصره إلى القاع وأعمق الأعماق، يريد أن يرتوى وأن يحظى بأمانيه من الوصال، محتملا فى ذلك جهودا مضنية، وفى ذلك يقول (٤):


(١) سلافة العصر لابن معصوم (طبع القاهرة) ص ٤١٨
(٢) تفيأ: استظل.
(٣) ابن خلكان ١/ ٣١٦
(٤) طبقات الصوفية للسلمى ص ٢٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>