للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهى نار كانت لا تزال مشتعلة فى قلوب الصوفية، نار حبهم للذات العلية، نار لا تنطفئ أبدا فى أثناء حبهم بل جهادهم الشاق العنيف فى هذا الحب، الذى كانوا لا يزالون يرحلون إليه رحلتهم الصوفية المجهدة حجّا وعمرة، وما يزالون راحلين هائمين مفضين إلى سكر لا يدانيه سكر، متجردين عن كل رغبة فى النفس، حتى لكأنما تتعطل إرادتهم ويموت كل شئ إلا رغبتهم الجامحة فى الوجد الربانى.

ويلقانا شعراء صوفية كثيرون فى كل طريقة من طرق الصوفية بل إن كثيرين من أصحاب هذه الطرق التى كان يرثها الأبناء عن الآباء كانوا شعراء ويجرى الشعر على ألسنتهم على نحو ما نقرأ عند السادة الوفائية الشاذلية، والسادة البكرية فى أيام الماليك وأيام العثمانيين من مثل قول على بن وفا:

تغيبت عن عينى فغيبك شاهدى ... ووجهك مشهودى وما عنك عائق

فإن غبت فالأشباح منى مغارب ... وإن لحت فالأرواح منّى مشارق

ويتلو الشهاب الخفاجى البيتين بطائفة من أشعار أبنائه ويقول لهم أنفس قدسية أفيضت عليها العلوم اللدنية (١). ونشأ للصوفية وطرقهم من قديم مريدون كثيرون كانوا لا يزالون ينوّهون بأصحاب طرقهم وأساتذتهم، وقد يبالغون فى ذلك، فيطلبون منهم الهداية إلى طريق التقوى والصلاح (٢).

وكان المديح النبوى يقترن بشعر التصوف من قديم، ومنذ حسان بن ثابت وكعب بن زهير والشعراء يمدحون الرسول صلّى الله عليه وسلم. وأخذت هذه المدائح تتكاثر منذ القرن الرابع الهجرى، تكاثرت على ألسنة أهل السنة مجسدين فى الرسول المثل الكامل للمسلم فى نسكه وجهاده فى سبيل نشر دعوته ورسالته النبوية، وكذلك على ألسنة الشيعة ذاهبين إلى أن نوره المحمدى يتجسّد فى أئمتهم من بعده. وبالمثل على ألسنة المتصوفة وقد أخذوا منذ الحلاج يشيعون فكرة الحقيقة المحمدية وأن الرسول مبدأ الوجود الروحى للحياة الإنسانية، بل مبدأ النور فى الكون، منه يستمد ضياءه. وقد مضى كل هؤلاء المادحين ينوهون بصحابة الرسول وبمعجزاته المادية ومعجزته الكبرى القرآنية، مع التوسل إليه بطلب الشفاعة يوم العرض وأن يكون دائما معينا لهم ونورا هاديا. ومازال الشعراء المصريون-مثلهم مثل شعراء العالم الإسلامى يتغنون بمديح الرسول صلّى الله عليه وسلم، حتى إذا نشبت


(١) ريحانة الألبا ٢/ ٢٠٨ وما بعدها
(٢) تاريخ الجبرتى ٢/ ٢١٢

<<  <  ج: ص:  >  >>