للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولها به، وجرّبه مرارا وتكرارا

والأعشى لا يصف مجالس الخمر فحسب، بل يصف وصفا دقيقا أوانيها وألوانها وما تفعله بعقول شاربيها وما تحدث فى قلوبهم من نشوة، مما يدل على أنه كان مشغوفا بها مفتونا، بل سكّيرا مغرقا فى السكر. وهو فى ذلك يقترب من ذوق جماعة المجّان فى العصر العباسى أمثال أبى نواس، وفى الوقت نفسه يفترق من ذوق معاصريه الذين لم يكونوا يسرفون على أنفسهم إسرافه فى اللهو والمجون. ولا نشك فى أن هذا جاءه من أثر الحضارات التى ألمّ بها فى الحيرة وغير الحيرة، بحيث تحول مدمنا لها، يلزم حوانيتها، فإن ولّى وجهه نحو منازل قومه حمل منها ما يكفيه هو ورفاقه هناك، فينهلون ويعلّون ولا يفيقون، وهو فى أثناء ذلك ينشدهم ما ينظمه فيها، وهم يصفقون استحسانا. ولم يكن يحسن وصفها فحسب، بل كان يضفى عليه حيوية بما يمزجه به من قصص على شاكلة قوله:

أتانى يؤامرنى فى الشّمو ... ل ليلا فقلت له: غادها (١)

أرحنا نباكر جدّ الصّبو ... ح قبل النفوس وحسّادها (٢)

فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدّادها (٣)

تنخّلها من بكار القطاف ... أزيرق آمن إكسادها (٤)

فقلت له: هذه هاتها ... بأدماء فى حبل مقتادها (٥)

فقال: تزيدوننى تسعة ... وما ذاك عدلا لأندادها (٦)

فقلت لمنصفنا: أعطه ... فلما رأى حضر شهّادها (٧)

أضاء مظلّته بالسّرا ... ج والليل غامر جدّادها (٨)


(١) يؤامرنى: يشاورنى. الشمول: الخمر. غادها: انطلق بنا إليها.
(٢) جد: نشاط. الصبوح: خمرة الصباح.
(٣) جونة: جرة وخابية. حدادها: خمارها.
(٤) تنخلها: تخيرها. بكار القطاف: أول ما يقطف. أزيرق: أزرق العينين. آمن من إكسادها: لمن كسادها لا يخلف.
(٥) أدماء: ناقة بيضاء. مقتادها: غلامها الذى يرعاها.
(٦) أندادها: أمثالها.
(٧) منصف: خادم. حضر: حضور. شهادها هنا: الدراهم.
(٨) مظلته: حانوته أو خباؤه. الحداد: الأهداب والأستار.

<<  <  ج: ص:  >  >>