للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأثمار، فما أخصبها رياضا، وأعذبها حياضا، وأشرفها أجساما وأعراضا».

وظافر يعنى فى رسالته بسجعاته، ويوفر لها كل ما يستطيع من جمال اللفظ وحسن الجرس، حتى تقع من نفس أمية الموقع الذى يريده من بلاغة القول وروعة البيان. وإذا مضينا إلى زمن الأيوبيين لقينا القاضى الفاضل أهم كتأبهم يدبج كثيرا من الرسائل الإخوانية أو الشخصية واقتطف منها محيى الدين بن عبد الظاهر باقات كثيرة فى مختاراته من رسائله التى سماها «الدر النظيم من ترسل عبد الرحيم» ومن قوله فى إحداها يصف لأحد أصدقائه دمشق:

«إنى وصلت إلى دمشق المحروسة حين شرّد بردها، وورّد وردها، واخضرّ نباتها، وحسن نعتها، وصفا ماؤها، وضفا (١) رداؤها، وتغنت أطيارها، وتبسّمت أزهارها، وافترّ (٢) زهر أقحوانها فحكى ثغور غزلانها، ومالت قضب بانها، فانثنت تثنّى ولدانها. فلما قربت من بساتينها، ولاح لى فسح ميادينها، وتوسطت جنّة واديها، ورأيت ما أودعه الله العظيم فيها، سمعت عند ذلك حماما يغّرد، وهزارا (٣) ينشد ويرّدد، وقمريّا (٤) ينوح، وبلبلا بأشجانه يبوح».

وأسلوب القاضى الفاضل واضح فى هذه القطعة لا بأسجاعه فحسب وما يبلغ فيها من اكتمال الجرس والإيقاع بين أوائلها وتواليها، بل أيضا بما يوشىّ به كلامه من الاستعارات البديعة وزخارف الجناسات، وكان ما يزال يضيف إلى مثل ذلك طباقاته وتورياته الرشيقة وما عرف به من العناية بمراعاة النظير. وكثرت المراسلات بينه وبين ابن سناء الملك وأبيه القاضى الرشيد، مما أتاح لابن سناء الملك أن يجمع منها كتابا يسميه «فصوص الفصول وعقود العقول»، وتحتفظ دار الكتب المصرية بمخطوطة منه، وهو مقسوم قسمين: قسم لمراسلات القاضى الفاضل وابن سناء الملك وقسم لمراسلات القاضى الفاضل مع أبيه، وفيه مراجعات كثيرة بين الفاضل وابن سناء الملك تتصل بنظرات له ونقد لبعض أبيات من قصائده. وحرىّ بنا أن نذكر كثرة استشهاد الفاضل فى رسائله الشخصية بالشعر حتى ليروى له القلقشندى فى الجزء الأول من صبحه (٥) رسالة موزعة بين كلمات نثرية تليها أبيات شعرية، ورسالة ثانية موزعة بين كلمات وشطور أبيات.

ومن كتّاب الديوان حينئذ البارعين فى تحبير الرسائل الشخصية الأسعد بن مماتى، وسنترجم له عما قليل.


(١) ضفا: سبغ.
(٢) افتر: تفتح.
(٣) الهزار: العندليب.
(٤) القمرى: ضرب من الحمام المطوق حسن الصوت
(٥) صبح الأعشى ١/ ٢٧٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>