للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإذا اعتراه السّهو سبّح خلفه ... صوت القيان ورنّة المزمار

وكانت فى الأبيض جرأة شديدة، وأفحش فى بعض هجائه للزبير فاستدعاه وقال له:

ما دعاك إلى هذا الهجاء؟ حتى إذا أخذ يقرّعه ويوجعه باللوم قال له هازئا به: إننى لم أر أحق بالهجو منك ولو علمت ما أنت عليه من المخازى لهجوت نفسك إنصافا ولم تكلها إلى أحد. وقامت قيامة الزبير حين سمع منه ذلك وأمر بقتله، وهو حمق منه ما بعده حمق.

وكان معاصره اليكّى يهجو المرابطين مثله، غير انه لم يبلغ مبلغه فى الإقذاع وهو من كبار الهجائين، وسنخصه بكلمة. وكانت بين المتفلسفين أبى العلاء بن زهر وابن باجة- بسبب المشاركة فى مهنة الطب كما يقول المقرى-ما يكون بين النار والماء، والأرض والسماء، فقال فيه ابن (١) باجة:

يا ملك الموت وابن زهر ... جاوزتما الحدّ والنهايه

ترفّقا بالورى قليلا ... فى واحد منكما الكفايه

وهى فى رأينا دعابة وممازحة، لا هجاء ذميم كما ظن المقرى، مما جعله يعقّب لأبى العلاء بن زهر ببيتين يصف فيهما شخصا بالزندقة وأنه لا بد أن يصلب والجذع والرمح حاضران، إلا أن يكون ذلك بقصد الدعابة. ومن الهجائين المخضرمين الذين عاشوا فى عصر المرابطين، ولحقوا عصر الموحدين الأعمى (٢) المخزومى أبو بكر محمد، وأنشد له ابن سعيد فى المغرب هجاء كثيرا، من ذلك قوله فى إحدى مقطوعاته يهجو قوما لقوه لقاء قبيحا:

وأنتم سننتم كلّ محدث سبّة ... ولم تتركوا فيها لحاقا لآخر

فقد جمعوا-غير مسبوقين-كل مسبّة وكل مذمّة وكل قبيحة، وقطعوا الطريق فيها على كل لاحق، حتى استحقوا لعنة تزرى سوءا وعارا بلعنات كل من فى المقابر كما يقول. ولم يسلم أحد من هجائه حتى تلميذته الشاعرة نزهون (٣) -وكانت من بيت فضل وعلم-هجاها قائلا:

ألا قل لنزهونة مالها ... تجرّ من التّيه أذيالها


(١) نفح ٣/ ٤٣٤ وما بعدها.
(٢) انظر فى ترجمة الأعمى المخزومى وشعره المغرب ١/ ٢٢٨ والإحاطة ١/ ٤٢٤ ٣/ ٢١٦.
(٣) تأتى فى الفصل التالى مراجع نزهون.

<<  <  ج: ص:  >  >>