للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتتناجى بالمنى أنفسنا ... حيث تداعى الطّير منها وانتجى (١)

تقسّم الناس بها قسمين من ... بين خلىّ قلبه ومصطبى (٢)

إذا اجتنى زهر الجمال وامق ... فيها اجتنى خلو بها زهر الرّبى (٣)

وكم أغان كنظيم الدّرّ فى ... تلك المغانى قد وشاها من وشى (٤)

وكم حديث كنثير الزّهر فى ... تلك المبانى قد حكاه من حكى

وهذه خطوط من اللوحة الباهرة التى رسم فيها مرسية وجناتها العطرة ونجوى الشباب هناك بالمنى فى أنس موصول، والناس قسمان محب وقع فى شرك الهوى وخال منه يوشك أن يقع فيه، وبينما يجتنى المحبّ أزهار حبه من النظر أو من القبل يجتنى الخلىّ من مشاهد الطبيعة الخلابة، والناس هناك كأنما لا يقضون أياما، بل يقضون أعيادا تكتظ بالغناء والموسيقى وبأحلى سمر تهواه الأفئدة. ويطيل حازم فى رسم تلك اللوحة ووصف كل ما وقف به من عشرات الأماكن التى كانت تلتقى فيها الأرواح والأدواح، حتى إذا ودّع تلك الجنان ارتسمت فى خياله قرطاجنة وخليجها ونزهاته مع صحبه فى فلكها، متساقين فيها كئوس الأنس فى حدائق، منتشين فيها بأكؤس الأحداق والعيون الساحرة.

ويرسم للأماكن فيها لوحة لا تقل فتنة وجمالا عن لوحة مرسية. ويطيل فى وصف حدائقها وأزهارها من بنفسج وسوسن وورد وشقيق وخيرىّ ونرجس وياسمين، ويصف كل ما يطوف بها من جبال ورياض ومنازل أو مغان يقول من يراها تفديها مغانى الشّعب: شعب بوّان التى تغنى بها المتنبى، ويدعو لها بالسقيا ويندب جدّها العاثر وما عفا فيها وفى أخواتها من رسوم الهدى ومعاهد الدين الحنيف. وقد استغرق ذلك كله من حازم نحو ثلاثمائة بيت، وكأنما أراد بما صور من تلك الفراديس أن يستثير المستنصر ليحاول إنقاذ الأندلس ويسترجع ما ضاع منها. ويشبب بمحبوبة له هناك باعدت بينه وبينها الأيام، وكأنما يتخذ من حبها الذى ضاع رمزا للأندلس الضائعة. ويلم بمديح المستنصر وكأنما استرد بإكرامه له شيئا مما ضاع منه. ويتحدث فى نحو مائتى بيت عن هجرته من الأندلس إلى تونس وما لقى فيها من المتاعب والمشاق التى احتملها فى جلد وصبر، ويفكر فى شئون الحياة وفى نفسه وخصاله وتسيل على لسانه عشرات من الحكم من مثل قوله:


(١) انتجى: تناجى.
(٢) خلىّ: خال من الحب. مصطبى: محب مغرم.
(٣) وامق: محب. خلو: خلىّ.
(٤) وشى: زين وزخرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>