للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولست من السّوائم مهملات ... فأتخذ الرّياض من المراعى (١)

وابن فرج الجبانى يصف لنا جمال صاحبته الخلاب وأنها كانت طوع وصاله وحبه، وكيف أنه أمضى معها ليلة سافرة فاتنة فؤاده، وفى كل لحظة تتجدد فتنتها، ومع ذلك ظل معتصما بالعفاف المفطور عليه، يردّ بعنف جمحات عواطفه وغرائزه، ساميا بنفسه عن عالم الحيوانية والغريزة النوعية إلى عالم كله سمو وصفاء ونقاء وطهر ما وراءه طهر. ويصور نفسه مثل سقب يظمأ والكعام على فمه، بل إنه ليكفيه من صاحبته النظر، يشفى به غليله إذ ليس كغيره ممن حوله المشبهين للحيوانات المرسلة فى المراعى ترعى كل ما تلقاه.

ولا نشك فى أن هذا التسامى اقترن بالحب والغزل فى الأندلس منذ أول الأمر، غير أن ابن فرج الجيانى عبّر عنه فى لوحة بديعة، وكأنما رسمه فيها وجسّده تجسيدا قويا. ولجعفر المصحفى وزير الحكم المستنصر (٢):

كلّمتنى فقلت: درّ سقيط ... فتأمّلت عقدها هل تناثر

فازدهاها تبسّم فأرتنى ... عقد درّ من التبسمّ آخر

واستعارة الدر للكلام وللثغر قديمة، غير أن المصحفى عرف كيف يحورها ويعرضها عرضا بديعا، حتى ظن من حسن كلام صاحبته أنها تلفظ دررا حقيقية أو أن عقدها تناثرت درره وحباته. وللشريف الطليق حفيد الناصر غزليات كثيرة، وسنخصه بكلمة.

وتنشب الفتنة وتموج الأمور وتضطرب اضطرابا شديدا، ويتولى الخلافة ما يقرب من سبع سنوات سليمان الملقب بالمستعين أحد أحفاد عبد الرحمن الناصر، وكان يحسن نظم الشعر، وضاع شعره مع ما ضاع زمن الفتنة، إلا قصيدة نظمها معارضة لقصيدة هرون الرشيد: «ملك الثلاث الآنسات عنانى» وفيها يقول المستعين (٣):

عجبا يهاب اللّيث حدّ سنانى ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان

وتملّكت نفسى ثلاث كالدّمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان

فأبحن من قلبى الحمى وتركننى ... فى عزّ ملكى كالأسير العانى

لا تعذلوا ملكا تذلّل للهوى ... ذلّ الهوى عزّ وملك ثان


(١) السوائم: الحيوانات المخلاّة فى المراعى.
(٢) رايات المبرزين لابن سعيد (طبع القاهرة) ص ٦٩ وانظر فى جعفر وشعره المطمح ص ٤ والحلة السيراء ١/ ٢٥٧ - ٢٦٧ والذخيرة ٤/ ٥٨ وما بعدها.
(٣) الذخيرة ١/ ٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>