للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبات فى حرم لا غدر يذعره ... وبتّ ظمآن لم أصدر ولم أرد

فكأنما بات بجوار صاحبته فى حرم مقدس ملتزما للعفاف لا ينقع غلّة حبّه برىّ منها ورشف والمنهل طوع يده وهو لا يرده ولا يصدر عنه، بل يكتفى بتكرار النظر للخدود والوجنات. وينشد له ابن بسام قطعا أخرى مماثلة فى العفاف مع ما يحمل من ألم الحب وأثقاله.

وشاع فى الأندلس-كما مر بنا فى الشواهد السابقة، وكما يلى فى شواهد مماثلة-هذا الغزل العذرى أو الروحى السامى الذى تعدّ العفة مقومه الأساسى والذى يجرى فيه هيام ليس بعده هيام مع الإجلال للمرأة والشعور بقدسيتها حتى ليشرد لبّ المحب والمحبوبة معه ويغيب عن حسه، مكتفيا منها-وهى طوع يديه-بنظراته وكأنه فى حلم-أو-كما يقول الخولانى-فى حرم مقدس.

وهذا الحب الأندلسى العذرى أو الروحى النقى تطاير شرر كثير منه إلى الأدبين الإسبانى والفرنسى، وهو يتضح عند الإسبان أشد الوضوح فى قصة دون كيشوت لسرقانتس (١٥٤٧ - ١٦١٦ م) وهو يذكر فى سطورها الأولى أنه يقصّها عن عربى، وكأنه مترجم لها فحسب. ونمضى فى قراءتها فنشعر كأنما تجسد فى بطلها الفارس العاشق:

دون كيشوت الحب الروحى السامى الأندلسى، وهو يخرج فى حبه عن طوره ويصيبه الجنون أو ما يشبه الجنون، إذ يهيم-ومعه تابعه سانشو-على وجهه متنقلا فى إسبانيا مقتحما فى أوقات جنونه كل ما يصادفه-أو يظنه-من أخطار أملا فى رضا محبوبته.

وكلما تغلب على خطر تذكرها، إذ هى مثله الأعلى، وهو لذلك لا يزال يقدم إليها حبّه وشجونه فيه. وعلى نحو ما يتألق شعر الحب الروحى الأندلسى عند الإسبان فى قصة دون كيشوت يتألق عند الفرنسيين فيما نظمه شعراء التروبادور فى القرن الثانى عشر الميلادى، إذ تتشابه أشعارهم من حيث الشكل وطريقة النظم والعروض والأغصان والأقفال والقوافى مع الموشحات الأندلسية (١)، وأيضا فإنها تتشابه معها ومع الغزل الأندلسى العفيف فى المضمون: فى عذاب الحب وحرقة القلب والخشوع أمام المحبوبة والطاعة والتذلل بين يديها وأيضا فيما يجرى فى هذا الغزل من ذكر خداع المحبوبة أحيانا وذكر الرقباء والوشاة. ويقول عبد الرحمن بن مقانا (٢):


(١) انظر الدكتور مكى فى كتاب أثر العرب والإسلام فى النهضة الأوربية (طبع الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر) ص ٥٧ وما بعدها.
(٢) الذخيرة ٢/ ٧٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>