للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بأبى عامر بن مسلمة صاحب كتاب حديقة الارتياح فى وصف حقيقة الراح الذى ألفه للمعتضد عباد أمير إشبيلية، وله فى وصف الخمر (١):

خمرة ماتت زمانا ... بحجاب يحتويها

لبثت فى بطن أمّ ... غيّبتها عن بنيها

ألحدتها الدّنّ دهرا ... ثم عاد الرّوح فيها

فانبرى منها سراج ... رائق من يجتليها

وهو يقول إنها ماتت زمانا طويلا وراء حجاب دنّها أو سداده، ويزعم أنها ظلت فى بطن أمها حقبا لا تبرزها لبنيها من الكئوس، وما زالت الدن مدفونة، أو بعبارة أدق ما زالت الخمر مدفونة لا حياة فيها ولا روح، ثم قدّر لها أن يعيد الماء لها روحها وحياتها حين وضع فيها وامتزج بها، ولم تلبث أن بدا فيها سراج يروق الناظرين. وكان يعاصره فى إشبيلية أبو الوليد إسماعيل بن عامر الحميرى الملقب بحبيب المتوفى سنة ٤٤٠ عن اثنين وعشرين عاما، وله كتاب البديع فى وصف الربيع الذى تحدثنا عنه فى الفصل الثانى، وهو أحد مصادرنا المبثوثة فى الهوامش، وقد جمع فيه روائع مما للأندلسيين فى صفة الربيع وأزهاره ونواويره، وهو دليل واضح على كثرة ما نظم الأندلسيون فى الطبيعة مما أتاح له أن يؤلف فيها منتخباته البديعة فى مائة وستين صفحة، مما نظموه فيها. ولابن عمار أبيات فى الخمر والطبيعة اشتهرت قدّم بها مدحة للمعتضد عباد، وهى تمضى على هذا النمط (٢):

أدر الزّجاجة فالنسيم قد انبرى ... والنّجم قد صرف العنان عن السّرى

والصّبح قد أهدى لنا كافوره ... لما استردّ الليل منّا العنبرا

والرّوض كالحسنا كساه زهره ... وشيا وقلّده نداه الجوهرا

روض كأن النهر فيه معصم ... صاف أطلّ على رداء أخضرا

وموسيقى القصيدة وصياغتها وصورها على هذه الشاكلة من التفنن، وكأنما تحولت الدنيا والطبيعة إلى محفل راقص، حتى النجم كأنما ثبت فى مكانه لا يريم، واسترد الليل المرح الذى قضوه عنبره وسواده منهم، فأهداهم الصباح كافوره وضياءه المشرق، وتبرّج الروض فى وشيه وجواهره، وكأن النهر الذى يجرى فيه معصم صاف متلألئ بمياهه يشرف


(١) الذخيرة ٢/ ١٠٨.
(٢) الذخيرة ٢/ ٣٨٤ ومغرب ١/ ٣٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>