للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أرقت أكفّ الدمع طورا وأسفح ... وأنضح خدّى تارة ثم أمسح (١)

فيا لغريب فاجأته منيّة ... أتته على عهد الشباب تجلّح (٢)

ترى بى-إذا أعولت حزنا-حمامة ... ترنّ وطورا أيكة تترنّح

وما أتلقّى الركب أرجو تحيّة ... توافى له أورقعة تتصفّح

فعرّج على مثوى الحبيب بنظرة ... تراه بها عنى هناك وتلمح

وهو يقول إنه يقضى الليل مسهدا تارة يكفكف دمعه وتارة يرسله مدرارا، وطورا يفيض فوّارا وطورا يمسحه. ويأسى لابن أخته أن أسرع إليه الموت غريبا شابا، بل لقد اختطفه اختطافا. ويرقّ له كل ما حوله، فالحمام يرن بهديله والشجر يترنح ويتمايل بأغصانه. ويقول إنه لن يعود يتلقى القادمين ممن كانوا معه ليسألهم هل أرسل إليه معهم تحية أو رسالة وينادى كل من حوله أن يعرج على مثوى الحبيب، ويلقى نظرة عليه، لعله يراه بها عنه أو يلمحه. ويقول أبو عامر بن الحمارة الفيلسوف تلميذ ابن باجة فى زوجته زينب (٣):

أزينب إن ظعنت فإنّ ظهرا ... أقلّك سوف يركبه المقيم (٤)

بأية حجّة أسعى لأنثى ... سواك وأنت هامدة هشيم

ولما أن حللت التّرب قلنا ... لقد ضلّت مواقعها النّجوم

ألا يا زهرة ذبلت سريعا ... أضنّ المزن أم ركد النّسيم

وهو يقول لها إن الدابة التى حملتك إلى المقابر سوف تحملنى قريبا، وسأظل وفيا لك على العهد لا أتزوج بعدك أبدا. والصورة بديعة فى البيت الثالث، فقد تعجّب لهذا النجم الثاقب أن يحل فى التراب ومكانه السماء فى أعلى علّيين، ويعجب أيضا لهذه الزهرة العطرة أن تذبل فى إبّانها وشبابها سريعا، ويتساءل أبخل المزن بقطره أم ركد النسيم، وهى أيضا صورة بديعة.

ويكثر التأبين عندهم لكثرة رجالات الأندلس من أمراء وخلفاء وحكام ووزراء وقواد وفقهاء وعلماء من كل صنف وأدباء من الكتاب والشعراء، وعادة يذكرون مناقبهم


(١) أكف: أكفكف. أسفح: أصبّ. أنضح: من نضحت العين إذا فارت.
(٢) تجلح: تسرع.
(٣) الرايات ص ١٢٨ وانظر فى ترجمته المغرب ٢/ ١٢٠ والبغية ص ٥١٧ والمطرب ص ١٠٩ والوافى ٢/ ٢٤٢.
(٤) ظهرا: دابة، ويريد النّعش أقلك: حملك.

<<  <  ج: ص:  >  >>