للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويعددون محامدهم وخصالهم الكريمة، ومن أوائل من أبّنوهم عبد الرحمن الأوسط المؤسس الحقيقى للحضارة العربية فى الأندلس على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع، وفيه يقول شاعره طاهر (١) بن حزم:

ويا حسرتا إذ أظفر الموت بغتة ... بمن لم يكن إلا به الموت يظفر

تداعت إلى النّعش السحاب فظلّلت ... سريرا عليه السيّد المتخيّر

سقى الله قبرا بالنّخيل غمامة ... تكاد إذا حلّت عراها تفطّر (٢)

كأنّ ثراه مذ به سكن النّدى ... إذا لاعبته الريح مسك وعنبر (٣)

وهو يتحسر على عبد الرحمن إذ ظفر به الموت، وكان الموت إنما يظفر به لأنه عدته وسلاحه، ويقول إن السحاب ظلل نعشه فى مسيرته، ويدعو لقبره فى النخيل (مقبرة الأمويين بقرطبة) أن تسقيه غمامة، وتظل هاطلة. ويقول إن ثرى القبر مذ سكنه جثمان عبد الرحمن تفوح منه رائحة المسك والعنبر. ويتوفى سعيد بن جودى زعيم العرب بغرناطة فيؤبّنه مقدّم بن معافى القبرىّ مبتكر الموشحات بقوله (٤):

من ذا الذى يطعم أو يكسو ... وقد حوى حلف النّدى رمس (٥)

لا اخضرّت الأرض ولا أورق ال‍ ... ‍عود ولا أشرقت الشّمس

بعد ابن جودىّ الذى لن ترى ... أكرم منه الجنّ والإنس

دموع عينى فى سبيل الأسى ... على سعيد أبدا حبس (٦)

فقد دفن الجود مع سعيد ولم يعد هناك من يطعم أو يكسو، فلا عمت الأرض خضرة ولا أورق الشجر ولا أشرقت الشمس بعد سعيد الذى لن يرى الجن والإنس من يفوقه جودا وكرما. ويقول إنه سيظل يبكيه ملتاعا وستظل دموعه محبوسة عليه أسى وحزنا ولوعة. وكان سعيد يقود العرب ضد ثورة عليهم فى إقليم غرناطة من المسالمة والمولدين والنصارى، ووقوف مقدم معه يدل بوضوح على أنه عربى من سلالة عربية، كما أشرنا إلى ذلك فى حديثنا عن الموشحات. ولابن الحنّاط الكفيف يرثى أبا الحزم بن جهور أمير


(١) المقتبس (تحقيق د. مكى-طبع بيروت) ص ١٢٥.
(٢) حلت عرا الغمامة: هطلت كثيرا. تفطر: تشقق، كناية عن غزارة المطر.
(٣) الندى: الجود والكرم.
(٤) المقتبس: الجزء الخاص بالأمير عبد الله بن محمد (انظر الفهرس).
(٥) رمس: قبر.
(٦) حبس جمع حبيس: محبوس وموقوف.

<<  <  ج: ص:  >  >>