للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وابن باجة، وقد يئس من زيارته لأبى بكر بن تيفلويت يتمنى له سلاما وروحا أوراحة ورحمة. وإنه لفى ذهول فيتساءل أحقا أنه لم يعد يغدو إلى قصره ولم يعد يرى ما كان على أبوابه ونوافذه من ستور كانت تردّ الجماهير؟ ويقول إن كانت القبور وجدت أنسا بقبره فقد خلفت وحشة فى قصوره وأمصاره التى كان يمد عليها سلطانه، وفيه يقول أيضا راثيا مؤبّنا باكيا (١):

يا صدى بالثّغر جاوره ... رمم بوركن من رمم (٢)

صبّحتك الخيل غادية ... وأثارتك فلم ترم

قد طوى ذا الدّهر بزّته ... عنك فالبس بزّة الكرم (٣)

وهو يقول أيها الجثمان الثاوى بثغر سرقسطة الأعلى بوركت رمم الأموات الذين جاورتهم، ويلتفت إليه قائلا: لقد صبّحتك الخيل التى تعوّدت أن تقودها لمنازلة الأعداء وأثارتك كى تنهض معها، غير أنك لم تبرح مكانك. ثم يقول-وقد أمضّه الحزن-إن يكن الدهر طوى عنك شارة الحياة فالبس شارتك الرائعة شارة الجود المنهلّ المدرار.

ولابن الزقّاق مرثية فى شهيد تقطر لوعة وأسى وهو يبكى فيه شبابه ومضاءه وتنكيله بحملة الصليب شر تنكيل، وهو يستهلها بأن الشهب ناحت عليه وبكى الغيم وانحسر ظل الأنس واغبرّ ضوء الشمس وبكاه حزب الله والإسلام، ويقول لحامليه: قفوا نودعه ونقض حقه من الدموع ولا تسلموه إلى الثرى، بل ادفنوه فى جوانحنا وأحشائنا، ويهتف ملتاعا (٤):

أعزز علىّ بضيغم ذى سطوة ... أجماته بعد الرّماح رجام (٥)

أعزز علىّ بزهرة مطلولة ... أمست ولا غير الضّريح كمام

إن راح مهجور الفناء فطالما ... هجرت به أرواحها الأجسام

الليل بعدك سرمد لا ينقضى ... فكأنما ساعاته أعوام

يا حاملين النّعش أين جياده ... يا ملبسيه التّرب أين الّلام (٦)

وهو يقول ونفسه تتقطع على هذا الشهيد حسرات تلذع حرقها فؤاده لذعا: إنه يعزّ


(١) المغرب ٢/ ١١٩.
(٢) الصدى: جسد الإنسان بعد موته.
(٣) بزة: شارة.
(٤) الديوان ص ٢٦٣ والمغرب ٢/ ٣٣٦.
(٥) أجمات جمع أجمة: الغابة والشجر الكثيف الملتف وهى مخبأ الأسد. الرجام جمع رجمة: الحجارة تنصب على القبر.
(٦) اللام: الدروع.

<<  <  ج: ص:  >  >>