للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه أن يصبح غيل هذا الأسد الضرغام وغابه الملتف حجارة ملقاة على قبره تندبه. ولقد كان زهرة غضة أرجة فى عنفوان شبابه، فصهرها الموت، وأبدلها من كمام الزهر حيطان ضريحه. ويقول إن كان قصره أصبح مهجور الفناء فطالما هجرت به أجسام أعدائه أرواحها وسحق ضلوعهم سحقا ذريعا، ويخال كأن الدنيا أصبحت بعده ليلا داجيا لا ينقضى أبدا وطالت ساعات السهد والغم والضيق والحزن العميق، وكأنما يذهل عن موت هذا الشاب البطل الذى تعود أن يراه ممتطيا جواده ممتشقا حسامه لحرب الأعداء، فيتساءل أين جياده، ويعجب أن يلبسه ملحدوه الترب وعادته أن يلبس الدرع ولأمة الحرب لمنازلة الأعداء منازلة ضارية. ومن أروع المراثى الأندلسية مرثية على بن حزمون للبطل أبى الحملات قائد الأعنة ببلنسية وقد استشهد فى بعض معاركه الضارية مع النصارى بعد أن أبلى بلاء عظيما، وجعل ابن حزمون مرثيته موشحة كأنما أراد أن تكون ندبا ونواحا على البطل الصريع، وفيها يقول (١):

نضا لباس الزّرد ... وخاض موج الفيلق (٢)

ولم يرعه عدد ... ذاك الخميس الأزرق (٣)

والحور تلثم خدّ ... أديمه الممزّق

وكان ذاك الأسد ... فى كل خيل يلتقى

إذا رأى الأعلاج وكبّرا ... ثم انبرى يماصع (٤)

رأيتهم كالدّجاج منفّرا ... وسط العرا الواسع

والموشحة من بحر الرجز وهو يقول إن البطل خلع عنه الدّرع وخاض دماء الكتيبة الباسلة وسط موجها المتلاطم يتقدم الصفوف مدافعا ذائدا غير مكترث بأعداد النصارى من الإسبان ولا برماحهم تنوشه، وأخذ يمزّقهم شرّ ممزّق حتى تكاثروا عليه فخرّ صريعا، وحفّت به الحور العين تزفه إلى الفردوس تقبّله وتلثم مواضع الطعنات فى جسده. وكم كان هذا الأسد المغوار يقود الخيل العاديات إلى النصارى يمحقهم محقا، وكان إذا نازلهم فرّوا فى غير نظام كأنهم دجاج منفّر، متناثرين فى كل صوب فزعا وهلعا، وكأنما كان قفلا كبيرا لبلنسية، يصدّ عن حماها العلوج النصارى منزلا بهم صواعق الموت صاعقة من بعد صاعقة إلى أن استشهد مشتريا بجهاده الفردوس ورضوان ربه. ونلتقى بمحمد بن


(١) المغرب ٢/ ٢١٧.
(٢) الزرد: الدروع. الفيلق: الكتيبة.
(٣) الخميس: جيش الإسبان، ووصفه بالزرقة لزرقة عيونهم.
(٤) يماصع: يجالد بالسيف ونحوه.

<<  <  ج: ص:  >  >>