للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحلّ عرى الجبّار فى دار ملكه ... ويهفو بنفس الشارب المتساكر (١)

وهو يقول لمن سيبكونه من إخوانه: لا تبكوا ولا تقولوا مات، فالناس-مثل آبائه- جميعا يرحلون عن دنياهم. إنه كأس الموت لا بد للجميع من احتسائه، ولا يستطيع شئ أن ينحّيه عن الناس لا أسجاع خطيب ولا أنفاس شاعر، ولا يفلت من شباكه قوى ولا ضعيف، ولا ملك جبار ولا أحد سكران أو غير سكران. ويقول جعفر حفيد مكى بن أبى طالب المقرئ المشهور فى رثاء عبد الملك بن سراج عالم العربية المتوفى سنة ٤٨٩ للهجرة (٢):

الموت حتم والنفوس ودائع ... والعيش نوم والمنى تضليل

لا يعصم العصماء منه شاهق ... صعب ولا الورد السّبنتى غيل (٣)

يهوى الفتى طول البقاء مؤمّلا ... وله رحيل ليس عنه قفول

يلهو ويلعب مطمئنّا ذاهلا ... وله رسيم نحوه وذميل (٤)

وهو يقول إن الموت حتم لا مفر منه، وما النفوس إلا ودائع له يسترجعها واحدة فى إثر أخرى، وما الحياة إلا برهة قصيرة كبرهة النوم، وما المنى إلا خدع يضلل بها الإنسان نفسه، ولن ينجو منه أحد لا العقاب المعتصم بجبل شاهق ولا الأسد القوى الجرئ فى غيله أو غابه، وإن الفتى ليهوى طول البقاء مؤملا آمالا كبارا غير مفكر فى رحلته الكبرى التى ليس منها قفول ولا رجوع. وإنه ليلعب ويلهو مطمئنا ذاهلا عن حركته المستمرة بين عدو وإبطاء نحو الموت. واغتيل بإشبيلية ذات ليلة شاب من شبابها المأمولين يسمى محمد بن اليناقى كان من المعجبين بالأعمى التطيلى وشعره، وكان يكثر من الافتقاد له، فحزّ فى نفسه اغتياله ونظم نونية بديعة يعزى بها أخاه أبا الحسن، استهلها على هذه الشاكلة (٥):

خذا حدّثانى عن فل وفلان ... لعلى أرى باق على الحدثان (٦)

وعن دول-جسن الديار-وأهلها ... فنين، وصرف الدهر ليس بفان (٧)


(١) المتساكر: متعاطى السكر والمتظاهر به.
(٢) الذخيرة ١/ ٨١٤.
(٣) العصماء هنا: العقاب. شاهق: جبل سامق. الورد السبنتى: الأسد الجرئ.
(٤) رسيم: عدو سريع. ذميل: سير دون السريع.
(٥) الديوان ص ٢٢٤.
(٦) الحدثان: الليل والنهار.
(٧) جسن: وطئن. صرف الدهر: أحداثه ونوائبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>