للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المكتوب عنه، ويتبع ذلك بالتحميد والصلاة على رسول الله والرضا عن صحابته، ويذكر المكان الذى كتبت فيه الرسالة ثم يأخذ فى بيان المقصود منها ويختمها بالدعاء. ومن خير ما يصور ذلك كله من رسائله الديوانية رسالة له عن سلطانه الغنى بالله إلى سلطان تونس الملقب بالخليفة، جوابا عن كتاب وصل منه مصحوبا بهدية من الخيل والرقيق، ولروعتها البيانية رواها ابن خلدون فى كتابه التعريف والقلقشندى فى صبح الأعشى، وهو يستهلها على هذا النمط:

«الخلافة التى ارتفع فى عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مبانى فخرها الشائع وعزّها الذائع على ما أسّسه الأسلاف، وجب لحقّها الجازم وفرضها اللازم الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرّحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف وولائها الشريف كما امتزج الماء والسّلاف، وثناؤنا على مجدها الكريم وفضلها العميم كما تأرّجت الرياض بالأفواف (١)، لما زارها الغمام الوكّاف (٢)، ودعاؤنا بطول بقائها واتصال علائها يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة وفواضلها العميمة لا تحصره الحدود ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر فى التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير الحقّ والإنصاف».

ولعل بلاغة لسان الدين قد اتضحت فى هذه القطعة، إذ ينعت فيها الخلافة التونسية نعوتا بديعة، وبدعها لا يأتى من انتخاب ألفاظها ذات الرونق والحسن فحسب، بل يأتى أيضا من أسجاعها الطويلة التى يتلافى طولها بما يجرى فى تضاعيفها من أسجاع داخلية على نحو ما نرى فى تقابل السجعتين: «فخرها الشائع» و «عزها الذائع» فى السجعة الثانية وبالمثل تقابل السجعتين فى السجعة الطويلة الثالثة إذ يقول: «لحقّها الجازم، وفرضها اللازم». وبنفس النمط تلاقى «المنيف والشريف» فى السجعة الخامسة، و «الكريم والعميم فى السجعة السادسة». ويكثر ذلك فى الرسالة طلبا لاكتمال الجرس حتى تلذ الأسماع لذة موسيقية، وهى لذة تقترن بمحسنات البديع، إذ تتوالى الجناسات فى السجعات الداخلية، كما تتوالى التصاوير، ففضل الخلافة أصيل القواعد، ومبانى فخرها وعزها استقلت وارتفعت، وامتزاج السلطان الغنى بالله وحواشيه بشرفها امتزاج الماء بالسلاف، وثناؤهم عطر كشذى الرياض فى الأزهار غبّ الغيث المدرار. وأخذ بعد ذلك فى نعت الخليفة نفسه وآبائه الأمجاد، وامتد نعته نحو أربعة عشر سطرا، ثم ذكر الغنى بالله مع


(١) الأفواف: الزهر.
(٢) الوكّاف: المدرار.

<<  <  ج: ص:  >  >>