للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سنة ٤١٧ فتراسلا مرارا، وألحّ عليه المؤتمن أن يترك قرطبة إلى بلنسية، فاعتذر إليه بشعر رقيق يصور فيه شغفه بقرطبة مع ما أصابها من المحن والخطوب والدمار وتفجّع لها وتوجع فى أسى مرير. ويقرّبه الخليفة المعتدّ ويتخذه جليسا وسرعان ما يتقوض حكمه وتتقوض معه الدولة الأموية سنة ٤٢٢ ويستولى على مقاليد الأمور بها أبو الحزم جهور. وفى سنة ٤٢٥ يزور أمير المرية زهير الصقلبى-من فتيان بنى عامر-قرطبة ومعه وزيره وكاتبه أبو جعفر أحمد بن عباس وكان فيه عجب شديد، فاصطدم به ابن شهيد وهجاه هجاء مقذعا. ويصاب فى أواخر هذه السنة بفالج ويقاسى منه لمدة سبعة أشهر أهوالا ثقالا حتى ليفكر فى الانتحار كما ذكر فى بعض شعره، ويلبى داعى ربه فى جمادى الأولى سنة ٤٢٦، وصلّى عليه-وأقام مراسم دفنه-أمير قرطبة أبو الحزم جهور، ويكثر البكاء والعويل على قبره وتنشد مراث متعددة لصديقه ابن برد الأصغر وغيره.

وهذه حياة ابن شهيد، وهى حياة امتلأت بغيوم الهموم مع ما امتاز به من تفوق فى الأدب نثرا وشعرا، وفيه يقول ابن حيان مؤرخ الأندلس: «إذا تأملته، وكيف يجرّ فى البلاغة رسنه، قلت عبد الحميد فى أوانه، والجاحظ فى زمانه. . وله رسائل كثيرة فى أنواع التعريض والأهزال قصار وطوال برّز فيها شأوه، وأبقاها فى الناس خالدة بعده» وقال عنه الفتح بن خاقان فى المطمح: «عالم بأقسام البلاغة ومعانيها، حائز قصب السبق فيها، لا يشبهه أحد من أهل زمانه، ولا ينسّق ما نسّق من درّ البيان وجمانه» وقال فيه ابن بسام: «نادرة الفلك الدوّار، وأعجوبة الليل والنهار، إن هزل فسجع الحمام، أو جدّ فزئير الأسد الضرغام، نظم كما اتسق الدر على النحور، ونثر كما خلط المسك بالكافور». وقد سقطت من يد الزمن أعماله ولولا ما احتفظ به ابن بسام وأصحاب الكتب الأدبية من أشعاره لضاع هذا الكنز النفيس من منظوماته، وأيضا لولا ما احتفظ به ابن بسام من رسائله وخاصة من رسالته التوابع والزوابع لفقد النثر الأندلسى دررا بديعة من لآلئه وروائعه.

وابن بسام لم يحتفظ برسالة التوابع والزوابع جميعها، إنما احتفظ ببعض فصولها، وما جاء فى صدرها من مخاطبة ابن شهيد لصديق له هو أبو بكر بن حزم، وتصادف أن كان لأبى محمد بن حزم أخ يتفق مع هذا المخاطب فى اسمه توفى سنة ٤٠١ فظن بعض الباحثين أنه هو المخاطب، ورتبوا على ذلك أن ابن شهيد ألف رسالته وهو شاب، ولو أنهم رجعوا إلى الحميدى فى الجذوة لوجدوه ينص على أنه شخص آخر، إذ يقول:

«يحيى بن حزم أبو بكر شيخ من شيوخ الأدب. . وهو الذى خاطبه أبو عامر بن شهيد

<<  <  ج: ص:  >  >>