للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أبى الطيب المتنبى، ولقيه فارسا على فرس بيضاء كأنه قضيب على كثيب، وبيده قناة قد أسندها إلى عنقه وعلى رأسه عمامة حمراء قد أرخى لها عذبة صفراء، فحيّاه زهير، فأحسن الردّ ناظرا من مقلة شوساء مضمومة أجفانها استعلاء قد ملئت تيها وعجبا، واستنشد ابن شهيد فأنشده بعض أشعاره، ولما انتهى قال لزهير إن امتد به شوط العمر فلا بد أن ينفث بدرر، وما أراه إلا سيختضر (يموت شابا) بين قريحة كالجمر وهمّة تضع أخمصه (باطن قدمه) على مفرق البدر، ويجيزه. وكأنما كان تابع المتنبى يقرأ فى صفحة القدر، إذ تنبأ له أن يحطم الموت غصنه اليافع بعد سنوات معدودة، وحطمه.

وسأل ابن شهيد زهيرا بعد لقائه بالمتنبى أن يلقاه بتوابع الكتّاب-ويسميهم الخطباء-وركضا الجواد طاعنين فى مطلع الشمس، ومالا إلى توابعهم بمرج دهمان وإذا بناد عظيم جمعهم، والكلّ منهم ناظر إلى شيخ أصلع جاحظ العين اليمنى على رأسه قلنسوة بيضاء طويلة، فسأل ابن شهيد زهيرا عنه فقال: عتبة بن أرقم صاحب الجاحظ وكنيته أبو عتيبة، فقال ابن شهيد: بأبى هو ليس رغبتى سواه وغير صاحب عبد الحميد الكاتب فقال له إنه ذلك الشيخ الذى إلى جنبه. وعرّف عتبة بابن شهيد، فقال له: إنك حائك للكلام مجيد، لولا أنك مغرى بالسجع، فكلامك نظم لا نثر، فاعتذر له قائلا إنه يعرف فضل الازدواج والمماثلة (خاصّة أسلوب الجاحظ وعبد الحميد الكاتب) غير أنه عدم ببلده فرسان الكلام. ويسوق حملة عنيفة على كتّاب زمنه مستخدما أسلوبهما من الازدواج والمماثلة، ويقرأ لهما رسالة طويلة مسجوعة فى الحلواء، يصف فيها طائفة منها، من مثل الخبيص والزلابية، ويستحسنانها قائلين إنّ لسجعه موضعا من القلب ومكانا من النفس، مع حلاوة اللفظ وملاحة السياق. ويذكران له أنه بلغهما أن من أبناء جنسه من يطعن على أدبه، وسألاه من أشدهما فى الطّعن والإجحاف بحقك، فيذكر لهما ثلاثة هم أبو محمد وأبو بكر وأبو القاسم، ولا نعرف شخصية أبى محمد، إذ تكنّى بهذه الكنية لزمنه غير واحد، وأما أبو بكر فأكبر الظن أنه إما أبو بكر بن حزم، الذى ذكر فى مطلع الرسالة أنه يتهمه بأن شيطانا يجرى على لسانه ما يخرج عن قدرة الإنس، وإما أبو بكر محمد بن قاسم المعروف بإشكمياط الذى مر بنا فى حياته أنه اتهمه بسرقة فقر نثره الحسان من سابقيه، وأما أبو القاسم فذكر ابن شهيد بعد سطور قليلة أنه أبو القاسم الإفليلى، ويهتف صاحبا الجاحظ وعبد الحميد بتابعه أنف الناقة بن معمر، وينهض لهما جنّىّ أشمط (دبّ الشيب فى شعره) ربعة وارم الأنف (متكبر شامخ بنفسه) يتظالع (يتعارج) فى مشيته كاسرا لطرفه، وزاويا لأنفه.

<<  <  ج: ص:  >  >>