وكان الإفليلى قد تصدّر فى قرطبة، يقرئ علم الأدب ويختلف الطلاب إليه، وكان مع علمه باللغة والنحو يتكلم فى معانى الشعر والبلاغة والنقد، واستكتبه المستكفى فى خلافته ثم أعفاه لخلو كلامه من حسن البيان والبلاغة. ويتهم تابعه أنف الناقة ابن شهيد بنقص اطلاعه، ويطلب إليه أن يناظره على كتاب سيبويه وشرح ابن درستويه، فيسخر ابن شهيد منه ويقول الإفليلى بلسان أنف الناقة إنه أبو البيان، فيهزأ به قائلا إنه لا يحسنه. ويطلب إليه أنف الناقة مثالا، فيصف له برغوثا وثعلبا وصفا رائعا. ويلتفت إليه تابع بديع الزمان زبدة الحقب فيطلب إليه أن يصف جارية ويعجب بوصفه، ويذكر له زبدة الحقب وصف البديع للماء ويقول له إنه من العقم أو المعجز، فيعارضه ابن شهيد بوصف رائع للماء، ويمتلئ زبدة الحقب غيظا، فيضرب الأرض برجله، فتنفرج عن هوّة يغيب فيها. ويشتدّ غيظ أنف الناقة تابع الإفليلى، فيطلب إليه أن ينشد بعض أشعاره، وينشد أشعارا بديعة متحدّيا له، وتصيح فتيان الجن إعجابا واستحسانا، وتعلو أنف الناقة الكآبة، ويحاول فتى من الجن أن يصلح بينهما، فيأبى ابن شهيد لما يتتبع الإفليلى فى دروسه لزلّة قد تمر به فى شعره أو نثره، فيهتف بها بين تلاميذه ويجعل وقوفه عليها مفخرة من مفاخره. فيقول له الفتى الجنىّ إن الشيوخ قد تزلّ أحلامهم فى النّدرة، ويقول ابن شهيد: بل إنها المرة بعد المرة. وما يلبث صاحبا الجاحظ وعبد الحميد الكاتب أن يشهدا له بأنه شاعر وناثر، وينفضّ الجمع، والكل ممتلئ إعجابا به. ويقول ابن بسام إنه امتد بعد ذلك بابن شهيد الكلام فى باب التوابع والزوابع، ومدّ فيه أطناب (أسباب) الإطناب والإسهاب، ولذلك وقف دون الغاية، وقطع قبل النهاية.
وكنا نتمنى أن لا يقطع ابن بسام وأن لا يقف، بل كنا نتمنى أن يورد التوابع والزوابع بحذافيرها، لأنها طرفة رائعة من طرف النثر الأندلسى، وهى طرفة بديعة النسق فى الصياغة والرونق فى العبارة دون سجع ولا ما يشبه السجع إلا ما جاء عفوا.
وأضاف ابن شهيد فى الرسالة إلى هذا الباب الخاص بلقائه لتوابع الكتاب والشعراء بابا تذاكر فيه مع زهير تابعه ما تعاورته الشعراء من المعانى ومن أحسن منهم الأخذ للمعنى ومن قصّر فيه، ويعرض لبعض المعانى ومن تداولوها، ويتمثل له جنىّ يسمى فاتك بن الصّقعب ويتحاور معه ويجرى على لسانه بعض أبيات من سينية غزلية له، ويسأله فاتك هل جاذبت أحدا فيجيبه نعم أبا الطيب المتنبى، وينشده من ذلك بعض أشعاره فيصيح فاتك صيحة منكرة من صياح الجن إعجابا واستحسانا. وكان بقربه جنى ضخم هو فرعون بن الجون، أخذ يتحداه بأشعار رائعة للمتنبى، فأنشده ابن شهيد بعض أشعاره