فردّه، فقال له ابن هانش:«اسكت يا أحول فما استدعيت، ولا استفتيت» وانصرف من مجلسه غاضبا، فألف رسالة فى الحول تدل على سعة علمه، وهى سعة شهد له بها كثيرون مثل القفطى فى ترجمته له بإنباه الرواة، إذ يقول عنه:«من أهل اللغة، وممن تصدّر فى بلده واشتهر بالعلم. . وكانت له يد جيدة فى اللغة وتحقيقها وإفادتها». ويقال إنه سئل من أين لك كل هذا العلم ولم ترحل؟ فأجاب: اكتسبته من بابى هوارة وزناتة فى بلدتى، يريد من العلماء الذين كانوا يفدون على طرابلس من الشرق والغرب، مما يدل على الأثر الواسع للوافدين على طرابلس فى ثقافة شبابها ومعارفهم العلمية على نحو ما أشرنا إلى ذلك فيما أسلفنا من حديث. ويقول التجانى فيه برحلته:«كان الفقيه أبو إسحاق هذا من أعلم زمانه بجميع العلوم كلاما وفقها ونحوا ولغة وعروضا ونظما ونثرا». وينوه بمؤلفاته، ويذكر منها كتابه فى العروض، ويقول:
«ناهيك به حسنا وترتيبا وتهذيبا، وهو نسختان: كبرى وصغرى» كما يذكر له كتابا مختصرا فى علم الأنساب، اختصر فيه أنساب قريش للزبير بن بكار، ويقول:«قد رأيت أبا إسحاق قد أدخل من حفظه فى هذا المختصر زوائد تشتمل على فوائد نبّه عليها». ومن مؤلفاته الطريفة كتاب فى الرد على ابن مكى فى كتابه:«تثقيف اللسان» وما جمعه فيه من الأخطاء اللغوية التى تدور فى أفواه الناس والعلماء، وقد راجعه فى كثير من هذه الأخطاء محاولا تصحيح بعض ما ظنه خطأ وتسويغه. وينوه التجانى بكتاب له فى شرح ما آخره ياء مشددة من الأسماء وبيان اعتلالها، ويقول التجانى: «استوفى فيه جميع أحكام هذه الياء على اختلاف أحوالها. .
ولما استوفى ذلك استيفاء جميلا تعرّض لشرح المقاطع (الفواصل اليائية) الواقعة فى سورة مريم لاشتمالها على كثير من تلك الأحكام، فجاء هذا التأليف فى غاية الإفادة». ويبدو أنه كان فقيها كبيرا، وتشهد له بذلك مراجعته لابن هانش السالفة فى حكم قضائى له، ويقول التجانى: له تآليف جليلة وأسئلة مفيدة فى الفقه، ولكن لا شك فى أن نشاطه اللغوى كان أكبر وأخصب من نشاطه الفقهى. وقد نشر من مؤلفاته كتابان لغويان نفيسان هما: كفاية المتحفظ ونهاية المتلفظ، والأزمنة والأنواء.
أما كتاب كفاية المتحفظ فهو على مثال كتاب فقه اللغة للثعالبى، ويتوزّع مثله إلى عدة أبواب، فباب فى صفات الرجال المحمودة ويتلوه بصفات الرجال المذمومة، وباب فى صفات النساء المحمودة، ويتلوه بالمذموم من صفاتهن، وباب فى خلق الإنسان، وباب فى الخيل، وباب فى السلاح، وباب فى السباع والوحش، وباب فى الطير، وباب فى النبات إلى غير ذلك من أبواب كثيرة، ويقول فى مقدمته:«هذا كتاب مختصر فى اللغة وما يحتاج إليه من غريب الكلام، أودعناه كثيرا من الأسماء والصفات، وجنّبناه حوشىّ الألفاظ واللغات، وأعريناه من الشواهد، ليسهل حفظه ويقرب تناوله، وجعلناه مغنيا لمن اقتصد فى هذا الفن، ومعينا لمن أراد الاتساع فيه». وقد