لطرابلس سنة ٧٠٧ للهجرة بصحبة الأمير الحفصى زكريا بن اللحيانى، وفيه يقول: «القائم برسم العلم فى هذه البلدة (طرابلس) فى وقتنا هذا شيخنا الإمام الحافظ أبو فارس عبد العزيز بن عبد العظيم حضرت درسه بمسجد مجاور لداره، فرأيت رجلا متضلعا من العلم، ذاكرا بالمذهب (المالكى) ذكرا لا يجاريه فيه أحد، ولا تكاد مسألة من مسائله تشذ عنه، حسن العبارة، مشاركا فى علوم جمّة وله اعتناء بحفظ كلام (الأئمة) القرويين (بالمغرب الأقصى) فى المذهب (المالكى) من تعليل أو تفسير أو توجيه أو تخريج، واعتماده فى الأصول الدينية والفقهية على كلام أبى المعالى (الجوينى إمام الحرمين) وكلام الشيخ أبى حامد الغزالى. . ولما حضرت درسه وتحققت مكانته المكينة فى العلم أحببت القراءة عليه مدة إقامتنا هنالك (بطرابلس) وطلب مخدومنا (الأمير أبى زكريا اللحيانى) أن يكون ذلك بمحضر منه، فلم يكن بد من استدعاء الشيخ لموضع سكنانا، فعقدنا مجلسه لذلك بالقصبة (قصر البلدة) وفى مجلس الأمير منها، وطلب الحضور بذلك المجلس جماعة من أعيان الطلبة بالبلد، فأذن لهم، ورأينا أن يكون المقروء حديث خير الأنام». ويذكر التجانى أن ابتداء هذه المجالس كان فى شهر شعبان من سنة ٧٠٧ وأنه بدأ بقراءة صحيح مسلم، والشيخ يعلق ويفسر ويجيب على الأسئلة، حتى إذا أتمّ التجانى قراءة صحيح مسلم على الشيخ أخذ يقرأ عليه صحيح البخارى، والشيخ يفسر ويعلق تعليقات علمية ويرد على الأسئلة ردودا دقيقة غاية الدقة، وأجاز ابن عبيد التجانى بما رواه عن شيوخه من هذين الصحيحين فى صفر سنة ٧٠٨ للهجرة.
وبدون ريب يمثل ابن عبيد الذروة التى انتهى إليها علماء الحديث وحفاظه فى طرابلس وأنهم لم يكونوا يقلون علما وحفظا ودراية للحديث النبوى وتعمقا فى دراسته عن أندادهم فى البلدان العربية: فى تونس وغير تونس بل إن هذا أحد الأفذاذ المتأدبين بتونس يقطع مع أميره رحلتهما ويظلان بطرابلس أشهرا ليحظيا بأخذ صحيحى مسلم والبخارى عن هذا الحافظ الكبير الثبت الحجة، وقد سأله التجانى عن شيوخه فأعطاه ثبتا بأهمهم، ونفر منهم كانوا طرابلسيين ونفر آخر كانوا من الوافدين على طرابلس إما لتولى منصب القضاء وإما مارّين بها فى الطريق لأداء فريضة الحج أو عائدين إلى ديارهم المغربية، ويذكر له الكتب التى أخذها عنهم، وفى مقدمتها كتاب الإرشاد لأبى المعالى إمام الحرمين الجوينى وكتاب البرهان له أيضا وكتاب المستصفى للغزالى. وفى ذلك ما يؤكد ما قلناه فى غير هذا الموضع من أن الوافدين على طرابلس والمجتازين بها كان لهم تأثير واسع فى حركتها العلمية. وتظل رواية الحديث النبوى ودراسته متصلتين فى طرابلس وكل أنحاء ليبيا طوال القرون التالية.
ويعدّ الفقه أهم علم إسلامى استوعب نشاط العلماء الليبيين، وطبيعى أن لا ينشأ فى ليبيا فقهاء يحسنون العلم بالمذاهب الفقهية المشهورة: مذهب أبى حنيفة ومذهب مالك ومذهب