من تلك المدن حين تبنى لا يقتصر فيها على قصر للحاكم، بل كانت تبنى فيها قصور ومساكن لآل بيته ولجنده وحاشيته ودواوينه، ويبنى فيها جامع كبير ويخطط شارعان متعامدان يقام عليهما حوانيت للصناع والتجار ومساكنهم، فهى مدينة كاملة. وكانت هذه المنشآت-بل المدن- العمرانية تحتاج إلى ما لا يكاد يحصى من العمال والصناع، إذ لا بد لها ممن يقطعون الأحجار ومن يقطعون الرخام وينحتونه أعمدة للقصور وكذلك للمحارس والحصون التى كانت تشاد على طول الساحل التونسى باسم رباطات.
وكان يبنى حول كل بلدة جديدة-وقد يبنى حول بعض البلدان القديمة-سور ضخم لكى يحميها من الأعداء حين يهاجمونها وتقام فيه أبواب كبيرة مصفحة بالحديد. ولم يكن العمران حينئذ مدنا ومعاقل وحصونا فحسب، بل كان أيضا صهاريج وأحواضا كبرى لسقاية الزروع والمساجد والشعب. وكل ذلك استلزم صناعات كثيرة من حدادة ونجارة وغير نجارة وحدادة سوى النقاشة واستخدام الفسيفساء (الموزايكو) فى حيطان الغرف والسقوف والأروقة المختلفة الرسوم بما يتراءى فيها من الأزهار والرياحين والمناظر البديعة، وزخرفوا بالفسيفساء أحيانا صهاريج الماء وأحواضه. وكان الحكام يبنون لأنفسهم قصورا شامخة على نحو ما مر بنا فى الفصل الماضى من تشييد أبى فارس لقصره الضخم فى إحدى ضواحى تونس المسماة باردو، وتوالت فى الضاحية قصور للحكام من الحفصيين والعثمانيين كانت تبهر من يراها فضلا عمن يزورها ويرى منحوتاتها ونقوشها البديعة. وحتى المنازل العادية للشعب كان أصحابها يتأنقون فيها، يقول الحسن الوزان عن منازل تونس: «لأكثر المنازل منظر بديع، وهى مبنية بحجارة مجهزة وجيدة النحت، وسقوفها مزدانة كثيرا بالفسيفساء وبالجصّ المجزّع، مع فن رائع، ومزوّقة باللون الأزرق وبألوان زاهية أخرى. . وتبلّط الغرف بمربعات من بلاط مطلىّ بلون فاتح كما يبلّط الصحن أيضا ببلاط مطلىّ بالدهان. وبيوتها على العموم-وحيدة الطابق-ولها مدخل بديع. . ويلجأ كل واحد إلى جعل مدخل بيته أكثر أناقة وأكثر زينة. وبجانب منازل المدينة وقصورها كانت هناك دور صناعة خاصة بالأساطيل وحاجاتها وإعدادها فى تونس وسوسة والمهدية، واستلزمت كثيرا من الخشب والحديد لصنع سفن الأسطول وأيضا من الحبال ونسيج الكتان لشراعات السفن وقلاعها، وبلغت سفن الأسطول فى عهد الأغالبة ثلاثمائة سفينة، سوى ما كان يحتاج إليه الأسطول من الأسلحة والعتاد الحربى من مثل السيوف والرماح والأقواس والسهام والمنجنيقات وآلات هدم الأسوار، سوى بناء الأحواض الواسعة فى الثغر لخدمة السفن.
وهذا الإنتاج الصناعى الوافر وما سبقه من الإنتاج الزراعى الكثير هيأ تونس-منذ عصر القرطاجيين-لأن تصبح سوقا عالمية كبرى، فكانت ترسل بمنتوجاتها شمالا إلى شعوب